أين المسيح في العهد القديم؟
كثيرون يظنون أن المسيح لم يُذكر إلا في العهد الجديد، حين وُلد في بيت لحم من مريم العذراء.
لكن… هل يمكن أن يخبئ الله خطة خلاصه عن الناس آلاف السنين، ثم يظهر فجأة؟ أم أن خطته واضحة منذ البداية، لكننا نحتاج أن نقرأها بعين مفتوحة؟
لو فتّشنا العهد القديم بعين مفتوحة، سنجد أن حضور المسيح منسوج في كل سفر: في الوعود، والرموز، والنبوات، وحتى في قصص الأنبياء.
البداية: الوعد في الجنة
في أول مشهد من مأساة السقوط، حين أخطأ آدم وحواء وتحوّلت الجنة إلى أرض دموع، لم يترك الله الإنسان في عاره. بل وسط الحكم على الحية أعلن وعدًا عجيبًا: “هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ” (تكوين 3: 15). هنا وُلد الرجاء الأول. كالشعاع الذي يخترق ظلمة الليل، جاء الإعلان عن نسل المرأة الذي سيحطم رأس الشر. المسيح هو هذا النسل، البداية الجديدة التي وعد بها الله منذ أول سقوط.
الفداء في الفصح والخروج
حين صرخ بنو إسرائيل من قسوة عبوديتهم في مصر، أرسل الله لهم طريق نجاة غريبًا: دم خروف على الأبواب! الدم على الخشب كان علامة الحماية من الموت. ذلك المشهد كان كقصيدة رمزية، ترسم باللون الأحمر صورة المسيح، “حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يوحنا 1: 29). كما خلّص دم الحمل القديم الشعب من موت جسدي، كذلك دم المسيح يخلّصنا من موت أبدي.
الذبائح والهيكل: ظلال المسيح
كل ذبيحة كانت تُقدّم على المذبح لم تكن إلا صرخة تقول: “نحن نحتاج إلى خلاص أعظم”. الدم الحيواني كان كالماء الذي يغسل الوجه، لكنه لا يغيّر القلب. الهيكل العظيم في أورشليم كان مركز العبادة، لكنه لم يكن إلا خيمة مؤقتة تشير إلى الحضور الكامل لله في المسيح. لذلك حين قال يسوع: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” (يوحنا 2: 19)، كان يكشف أنه هو الهيكل الحقيقي، الذي فيه يسكن الله مع الناس.
النبوات: صوت المستقبل
أنبياء العهد القديم لم يتكلموا من أنفسهم، بل كأنهم ينظرون من بعيد إلى جبل قادم، وكانت هذه النبوات كنجوم متفرقة في سماء التاريخ، وحين نربطها معًا، نرى صورة المسيح واضحة.
• إشعياء يصف طفلاً يُولد يكون “إلهًا قديرًا” (إشعياء 9: 6).
• ميخا يحدد المكان: بيت لحم الصغيرة، التي صارت مهد الملك العظيم (ميخا 5: 2).
• زكريا يرسم الصورة: ملك وديع يدخل أورشليم على جحش (زكريا 9: 9).
• دانيال: يلمح إلى «ابن الإنسان» الآتي على سحاب السماء، الذي يُعطى سلطانًا أبديًا لا يزول (دانيال 7: 13–14). وهذا اللقب استخدمه المسيح كثيرًا عن نفسه.
• هوشع: يتنبأ عن عودة المسيح من أرض مصر: «من مصر دعوت ابني» (هوشع 11: 1) — وقد تحققت هذه الكلمات حين عاد يسوع من مصر بعد هروب يوسف ومريم به من هيرودس.
• ملاخي: آخر أنبياء العهد القديم، يعلن أن «ملاك العهد» سيأتي فجأة إلى هيكله (ملاخي 3: 1). ويهيئ الطريق له «إيليا» الآتي، الذي فهمناه لاحقًا أنه يوحنا المعمدان
المسيح في المزامير
المزامير أشبه بكتاب صلوات، لكنها في كثير من الأحيان تحمل نغمة نبوية عن المسيح. المزمور 22، مثلاً، يصوّر شخصًا مصلوبًا: “ثقبوا يديّ ورجليّ” (آية 16). كأن داود كان يرى الصليب قبل ألف عام. حين تحقق ذلك في يسوع، فهمنا أن الله لم يترك شيئًا للصدفة.
خيط واحد من التكوين إلى ملاخي
لو جمعنا هذه الصور سنكتشف خيطًا واحدًا يربط العهد القديم كله: الله يعد، ويرسم، ويشير إلى المسيح. من جنة عدن إلى صحراء سيناء، من خيمة الاجتماع إلى هيكل أورشليم، من كلمات الأنبياء إلى ترانيم المزامير، كلها تقول: “المسيح آتٍ”. لذلك قال يسوع لليهود: “فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي.” (يو 5: 39).
ماذا يعنينا هذا اليوم؟
قد يسأل أحدهم: وما الفائدة لنا من رؤية المسيح في العهد القديم؟ الفائدة عظيمة. إنها تعلن أن الله أمين لا يغيّر وعوده. منذ البداية كان يقصد أن يخلّص الإنسان، لم يتركه في سقوطه، بل هيّأ خطة تمتد عبر الأجيال حتى صارت حقيقة في شخص المسيح. العهد القديم إذن ليس كتابًا منسيًا، بل كتاب حيّ يعلن محبة الله وثبات مقاصده.
الخلاصة
المسيح في العهد القديم ليس ضيفًا غريبًا، بل هو بطل القصة الخفي. وعود الجنة، دم الفصح، ذبائح الهيكل، كلمات الأنبياء، مزامير التسبيح… كلها أنهار تصب في بحر واحد وهو المسيح.
لذلك حين نقرأ العهد القديم، لا نقرأ قصصًا قديمة، بل نسمع همسات تقول: “ها هو آتٍ”. وفي العهد الجديد نسمع الإعلان الكامل: “الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا” (يوحنا 1: 14).
إذن، لو المسيح مذكور منذ أول صفحات الكتاب، ورموزه ونبواته تمتد عبر آلاف السنين… فهل يعقل أن يكون مجرد نبي عادي؟ أم أنه أكثر من ذلك بكثير..؟!