الفداء استرداد حياة

حينما نتحدث عن “الفداء”، قد يظن البعض أنه يعني ببساطة أن المسيح مات بدلًا عن الإنسان. لكن فكر الكتاب المقدس يذهب أبعد من ذلك؛ لأن الفداء يبدأ من التجسد، ويتحقق بالصليب والقيامة، ويستمر بالروح القدس. وهو ليس فقط رفع عقوبة بل هو شفاء للإنسان وتجديد طبيعته.
في المقابل، قد يترجم البعض كلمة “فداء” على أنه أمر غير عادل، لأن القرآن يوضح أن “وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى” (الأنعام 164). أي أن كل إنسان مسئول عن نفسه ولا يمكن أن يُحاسب أحد عن آخر. وهنا نسأل: هل الفداء هو عقوبة آخرين بالنيابة عن آخرين، أم هو شفاء للحياة الإنسانية نفسها؟

1. الفداء يبدأ من التجسد

في الإيمان المسيحي، لم يبدأ الفداء بالصليب فقط، بل بدأ من التجسد “والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا” (يوحنا 1: 14). فقد أخذ المسيح طبيعتنا كلها ما عدا الخطية لكي يعطينا طبيعته.
أما في القرآن، فنجد أن عيسى بن مريم يُلقب بـ”كلمة الله وروح منه” (النساء 171). ويفهَم من هذا أن المسيح له مكانة خاصة جدًا بين الأنبياء. إذا نحن نتفق على أن المسيح في جوهر رسالته ليس مجرد نبي، بل يحمل حضورًا إلهيًا مميزًا، فقد جاء ليعطي حياة جديدة.

2. الدم يعني حياة لا موت

في كتاب اللاويين فصل 17 والآية 11 تقول كلمة الله:”لأَنَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ”. فالدم ليس مجرد علامة للموت، بل إشارة للحياة. وعندما قال المسيح: “مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ” (يوحنا 6: 54)، قصد أن دمه المسفوك ليس موتًا فقط بل حياة تُسكب فينا.
وقد تفكرعزيزي القارئ أن الله هو بالفعل “مُحيي الموتى” (البقرة 28)، وأن الحياة عطية مباشرة منه. وهنا يلتقي الفكران: فحياة المسيح المعطاة لنا بدمه هي تعبير عن أن الله يهبنا حياة جديدة من ذاته.

3. العدل الإلهي: شفاء لا إدانة

قد يعترض الكثيرين قائلين: كيف يُعاقب البريء عوضا عن المذنب؟ وهذا الاعتراض مفهوم لأنه ينطلق من فهم العدل بمقاييس بشرية. لكن في الكتاب المقدس، العدل الإلهي ليس مجرد قصاص، بل هو أمانة الله لصورته في الإنسان.
يقول أحد المفكرين: “كان من غير اللائق أن يبقى من خُلق على صورة الله في الفساد؛ لذلك أتى الكلمة ليسترد للإنسان إنسانيته الأصيلة”. أي أن عدل الله يعني أن الله لا يترك خليقته تهلك بل يتدخل ليشفيها.
والمسلم يؤمن أن: “وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ” (غافر 31). فعدل الله هو خلاص وشفاء، لا ظلم ولا عقوبة عشوائية.

4. الصليب والقيامة: الدخول إلى عمق المشكلة

فالصليب هو دخول المسيح إلى عمق جرحنا وهو الموت، والقيامة هي فتح باب الحياة الجديدة. الصليب ليس إدانة بل علاج، والقيامة ليست مجرد عودة للحياة بل بداية خليقة جديدة.
بينما يرى المسلم أن الله رفع المسيح إليه (النساء 157-158)، فهو لم يُترك للموت كسائر البشر. وهنا يمكن أن نقول: نعم، المسيح في كلتا الحالتين هو الذي يتجاوز الموت، ليكون هو الطريق للحياة الجديدة.
فكر معي.. لماذا المسيح على وجه الخصوص دون سائر الأنبياء من يوكل إليه عمل يشير إلى طبيعة الله “واهب الحياة” ؟

5. الروح القدس: استمرار الفداء فينا

الروح القدس هو الذي يسكب حياة المسيح فينا، يجعلنا “شركاء الطبيعة الإلهية” (2بطرس 1: 4)، لأنه يحي أرواحنا فتصبح صالحة للتواصل مع الرب الروح، ليس فقط بل أيضا يغيرنا من الداخل. المسيحي لا يفهم الفداء كفكرة نظرية، بل كحياة يحياها يومًا بعد يوم. فالروح القدس ليس قوة تؤيد وتعين فحسب، لكنه الله الروح الذي يسكن في المؤمنين ليمنحهم قوة الحياة الجديدة.
إذا الفداء في فكر الكتاب المقدس ليس نقضًا لعدل الله ولا تجاوزًا لمسئولية الإنسان الفردية، بل هو شفاء جذري للطبيعة الإنسانية و يبدأ بالتجسد، وقد تحقق بالصليب والقيامة، ويستمر في حياة كل من آمن به من خلال عمل الروح القدس. أيضا الفداء ليس “إزاحة عقوبة عن شخص إلى آخر”، بل هو “إعطاء حياة جديدة من الله نفسه”. فالعدل الإلهي يظهر هنا كأمانة الله لمحبته وخليقته، فالدم يساوي حياة تُسكب في الإنسان فتسترد له الصورة الأصلية التي خلق عليها والقادرة على سماع صوت الله والتواصل معه.