الفصل الثامن
بين لاهوت المسيح وناسوته
كانت مسألة بنوة يسوع لله وألوهيته هي الحاجز الأكبر الذي وقف أمامي عائقا على مدار سنوات. فكيف لي أن أقبل بأن يكون لله ولد؟ وكيف يمكن تأليه إنسان حتى لو كان نبيا غير عادي؟ فقد ذكرت في السابق أنني عندما قرأت الإنجيل للمرة الأولى وجدت يسوع قد تحدث عن بنوته للآب أكثر من مرة. لكنني في البداية قلت لنفسي أنه وصفنا أيضًا بأبناء الله. إذا فلم يقصد المسيح أن يقول أنه وحده ابن الله وإنما كلنا أبناءه ولهذا علّم أتباعه أن يبدأوا الصلاة مخاطبين الله “أبانا الذي في السموات”. وهذا التفسير أراحني جدا وظللت لسنوات أقنع نفسي بأن هذا ولابد ما كان يقصده المسيح وأن المسيحيون هم من أرادوا إضفاء صفة البنوة ليسوع بشكل مختلف عن بنوتنا لله ليزيدوا من قداسته. وكنت أشعر بضيق شديد عندما أسمع المسيحيون يلقبون المسيح بـ “إلهنا ومخلصنا” واعتبره تجديفا على الله وشركا به. لكن ما حدث عند قراءتي الثانية المتأنية للإنجيل بعد نحو أربع عشرة سنة أن لاحظت أن المسيح وصف بنوته للآب بشكل يختلف فعلا عن بنوتنا له. فعندما سأل السيد المسيح تلاميذه: “وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إلى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلا: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» فَقَالُوا: «قَوْمٌ: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». قَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!» فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْما وَدَما لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ” (مت 16: 13-17). فمن الواضح أنه أعجب بإجابته وأثنى عليه، ولم ينكر بنوته الخاصة لله، بل على العكس أكدها في أكثر من موضع. فمثلا بعدما أعطى البصر للمولود أعمى قابله وسأله: “فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجا، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟» أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: «مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ!» فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ!» وَسَجَدَ لَهُ” (يو9: 35- 38) فلو كان يقصد بنوة عادية كبنوة باقي البشر الرمزية لله فلماذا يخص نفسه؟ كما أنه لم يكن سيسمح لهذا الشخص بالسجود له.
وفي وقت معموديته شهد الآب نفسه ببنوة الرب يسوع له عندما حلت عليه حمامة وسمع صوتا من السماء يقول: “وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلا: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»” (مت 3: 17). وإذا كانت هذه الواقعة تخص الرب يسوع فقط، فقد وجدت واقعة أخرى ربما تفوقها أهمية لأن هناك شهود عليها وهي الخاصة بحدث التجلي. عندما صعد الرب يسوع إلى الجبل وأخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا ووجدوا موسى وإيليا يتحدثان مع الرب يسوع الذي أضاء وجهه كالنور وابيضت ثيابه كالثلج وظللته سحابة، ثم سمعوا صوتا من السحابة قائلا لهم: “وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلا: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا»” (مت 17: 5). وهو أمر إلهي بالخضوع للإبن. وفي آية أخرى يخاطب الرب يسوع الآب قائلا: “وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ” (يو 17: 10). وسأجمل سريعا بعض الآيات الأخرى التي تناولت موضوع بنوة الرب يسوع للآب:
● “13 وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابْنِ. إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئا بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ” (يوحنا 14: 13، 14)
● “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ” (يو 3: 16).
● “قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَانا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ” ( يوحنا 14: 9، 10).
● “أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ” (يو 10: 30).
● “فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ” (مت 16: 27). وهنا استوقفتني نقطة هامة. أن الرب يسوع يؤكد أكثر من مرة أنه الديان الذي سيحاسب الناس يوم القيامة؟!
● “وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ” ( متى 25: 32،31)
● “… أَنَا هُوَ الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبِ، وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ” (رؤ 2: 23).
● “لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إلى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ” (يوحنا 5: 28، 29)
● “لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَة؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!” (متى 7:21 – 23)
● “لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدا، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الابْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ” (يوحنا 5: 22- 23)
● “لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الابْنُ أيضًا يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ” (يو 5: 21).
● “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ” (يوحنا 5: 25)
فإذا كان الرب يسوع هو مجرد نبي أو ابن لله كبنوة باقي البشر المجازية له، فلماذا سيعطيه كل هذه المكانة ويسمح له بأن يكون الديان ويحاسب البشر يوم القيامة؟ وهناك من شهد لبنوته وألوهيته كما حدث عند معجزة مشيه على الماء “وَالَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!»” (مت 14: 33). فالسجود يكون لله وهو علامة للعبودية، ولم يستنكر يسوع ولا مرة أن يسجد أحد له. فعندما صعد إلى السماء أمامهم بعد قيامته: “وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إلى السَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إلى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ” ( لوقا 24: 51، 52).
وكثيرا ما توقفت عند الآية التي قال فيها: “وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إلى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ” (يو 3: 13). وتساءلت. كيف له أن يكون في السماء وهو يتحدث معهم على الأرض؟ فالله وحده هو القادر أن يكون في كل مكان وكل زمان. فإذا امتلك يسوع صفة من صفات الألوهية فماذا يكون؟ وما يؤكد ذلك ما قاله في آية أخرى: “لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ” (مت 18: 20). وماقاله الله نفسه في العهد القديم متحدثا عن ابنه القادم إلى الأرض: “لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبا، مُشِيرا، إِلها قَدِيرا، أَبا أَبَدِيّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ” (إش 9: 6). فهذا وارد في العهد القديم على لسان الله نفسه الذي أعطى وصف “إلها قديرا” لإبنه. وفي العهد القديم نبوة عن المسيح وولادته من عذراء تقول: “وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَة: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ»” (إش 7: 14). لذلك عندما بشر الملاك جبريل السيدة مريم بولادة الطفل يسوع قال لها: “فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَها: اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أيضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ” (لو 1: 35). وعندما ذهبت لترعى قريبتها العجوز أليصابات عندما علمت بحملها. امتلأت أليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت: “وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ!” (لو 1: 42). وماحدث من زلزلة وإظلام للشمس وقت صلب المسيح دفع قائد المئة والذين كانوا معه يحرسون يسوع ليقولوا: «حَقّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ!» (مت 27: 54).
أما ماتوقفت عنده بالأكثر فكان ما حدث مع تلميذه توما الذي شكك في قيامته عندما أخبره باقي التلاميذ برؤيتهم له بعد قيامته. فيروي الإنجيل ما حدث قائلا: “وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أيضًا دَاخِلا وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمْ!»ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إلى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنا». أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُ: «رَبِّي وَإِلهِي!» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا»” (يوحنا 20: 26- 29) وتوقفت هنا عند وصف توما له “ربي وإلهي” فربما كانت المرة الوحيدة في الإنجيل التي يصفه فيها أحد بإلهي. فكلمة الرب لم تكن تستخدم وقتها بمعنى الإله وإنما بمعنى المعلم والسيد. لكن كلمة إلهي بالتأكيد واضحة. فلماذا لم يعترض السيد المسيح على وصف توما له بإلاله؟ ولماذا لم يعترض عند سجود الأعمى الذي أبصر له والتلاميذ بعد صعوده؟ وفي سفر الرؤيا يقول الرب يسوع بنفسه ليوحنا: “أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ” (رؤ 1: 8).
“ثُمَّ قَالَ لِي: قَدْ تَمَّ! أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّانا” (رؤ 21: 6).
المشكلة التي اكتشفتها أن ما يمنعنا بالأخص كمسلمين من قبول ألوهية المسيح أو ربوبيته أننا ننظر إليه كإنسان وكبشر فكيف يمكننا رفع بشر مثلنا إلى مصاف الألوهية؟ ألا يعد ذلك شركا بالله؟ وبالطبع إذا قمنا بتأليه إنسان أيا كان فإن هذا هو الشرك بعينه. لكن يسوع المسيح لم يكن إنسانا منذ البدء لكنه كان كلمة الله الذي تجسد في وقت ما من الزمن واتخذ صورة بشرية ليستطيع أن يتمم عمله الخلاصي على الصليب، وهذا ما يؤكده إنجيل يوحنا في بدايته: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ. كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيا إلى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ” (يوحنا1: 1- 10).
ربما يبدو الإسلوب فلسفيا ويصعب قليلا على الفهم لكن ما هو واضح من الآيات أن يسوع هو كلمة الله وأن لفظ ابن الله هو لفظ مجازي. فليس المقصود أبدا أن الله قد تزوج وأنجب – حاشاه – وإنما المقصود بإبنه أنه “منه”. ويقول بولس الرسول: “فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ” (كو 1: 16).
وماكنت أسمعه عن بولس الرسول من بعض المسلمين هو أنه من قام بتحريف المسيحية وأنه من أدخل فكرة ألوهية المسيح لهدم الديانة وتحريفها! لكنني عندما قرأت الإنجيل وقرأت قصة إيمان بولس والرسائل التي كتبها وجدت أنه كان في البداية من أشد كارهي المسيحية وكان يضطهد المسيحيين ويحرض على قتلهم، فما الذي حدث ليحوّله لأعظم وأهم مبشر مسيحي وتصبح رسائله جزءا من الكتاب المقدس؟ ما حدث أنه ذات يوم بينما كان مسافرا إلى دمشق ليقبض على بعض المؤمنين المسيحيين ظهر له الرب يسوع في الطريق وقال له لماذا تضطهدني؟ فسأله من أنت ياسيد؟ فأجاب: أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده. وفي الحال أصيب بالعمي وطلب منه الرب أن يذهب إلى دمشق وهناك ظهر الرب لرجل مؤمن اسمه حنانيا وطلب منه أن يذهب لشاول – وهذا كان اسمه قبل أن يغيره الرب لبولس – ويضع يده عليه ليعود له البصر. وعندما سمع حنانيا اسم شاول تعجب لأنه كان يعرف ما يفعله هذا الشخص بالمسيحيين من اضطهاد وتعذيب. لكن الرب أخبره أن عليه أن يذهب لأنه اختار بولس ليكون إناء مختار ليحمل اسمه أمام أمم وملوك وبني إسرائيل، وأنه سيتألم من أجل اسم المسيح. وبالفعل بعدما ذهب إليه ووضع يديه على عينيه أبصر فقرر أن يتعمد. ومنذ تلك اللحظة وهب بولس حياته لخدمة الرب يسوع والتبشير به في آسيا الصغرى وفي أوروبا. وتحمل في سبيل ذلك كافة أنواع الاضطهادات من سجن وجلد وتعذيب واستهزاء حتى قتل في عهد نيرون ويقال أنه تم قطع رأسه. فهل يمكن لشخص تحمل كل ذلك أن يكون قد تسلل للمسيحية فقط من أجل هدمها من الداخل؟ فيخسر حياته ويتحمل هذا الكم من الاضطهادات ويترك خلفه كل هذه الرسائل التي وضعت حجر الأساس للتعاليم المسيحية بعد تعاليم السيد المسيح؟!
ويروي بولس عن نفسه بشكل غير مباشر: “أَعْرِفُ إِنْسَانا فِي الْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَة. أَفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. اخْتُطِفَ هذَا إلى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. وَأَعْرِفُ هذَا الإِنْسَانَ: أَفِي الْجَسَدِ أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. أَنَّهُ اخْتُطِفَ إلى الْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا” (2 كو 12: 2 – 4). ويتحدث بولس أيضًا عن لاهوت المسيح قائلا: “فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّا” (كو 2: 9). وفي موضع آخر يقول: “وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” (أف 3: 9). فمن الواضح أن الله أنار ذهن الرسول بولس بمعرفة خاصة عن جوهر السيد المسيح وبحقيقة لاهوته التي أشار إليها السيد المسيح بشكل غير مباشر لأكثر من مرة. فالإنسان العادي يتكون من روح ونفس وجسد، أما الرب يسوع فيتكون من روح ونفس انسانية وجسد وأيضًا لاهوت وهذا هو المقصود بالناسوت واللاهوت. لهذا يقال أن السيد المسيح إله لأن له اللاهوت الإلهي نفسه الموجود في الآب وأيضًا في الروح القدس. لذلك فهم ليسوا ثلاثة آلهة بل ثلاثة أقانيم يشتركون في نفس الجوهر الإلهي خالق هذا الكون والمتحكم به. ولكل منهم دور مختلف لكنهم يكملون بعضهم البعض. فالأب هو ضابط الكل وهو صاحب خطة الخلق وخطة الخلاص، والإبن هو مهندس الخلق ومخلص البشر والديّان، والروح القدس هو معطي الحياة وهو الذي سيبعث الناس يوم الدينونة. تماما كما نتكوّن نحن كبشر – ولله المثل الأعلى – من عقل وجسد وروح يلعب كل منهم دورا مختلفا في تكوين الشخص الواحد وإن اختلفت أجزاؤه إلا أنهم يكملون بعضهم البعض.
وهنا علي أن أؤكد أن أكبر عقبة وقفت أمامي لسنوات بل وحتى بعدما قبلت إتباع المسيح كمخلص وكإبن لله كانت الإعتراف بألوهيته وقبول عقيدة الثالوث، وأن عقيدة الإسلام البسيطة التي تتطلب الإيمان بالله الواحد الفرد الصمد وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كانت أسهل كثيرا بالنسبة ليَّ. فلم أكن أود المغامرة بقبول عقيدة ربما تكون سببا في دخولي جهنم إلى الأبد. ولم أرغب حتى في سؤال الله عن مدى صحتها فقد تربينا في الإسلام على كفر من يؤمنون بالتثليث وألوهية المسيح فكيف لي أن أتساءل حتى مجرد السؤال عن مدى صحة ذلك؟
لكنني وكلما تعمقت في بحثي وجدت أن كل ما سبق يقودني لطريق واحد هو الإيمان بالسيد المسيح مخلصا. لكن حتى قبولي لذلك في البداية لم يمكنني من الإيمان بالثالوث وبألوهية السيد المسيح. فعندما ركعت أمام الله لأعلن له تركي الإسلام وإيماني بأن يسوع هو ابنه الوحيد وأنه هو وحده الطريق والحق والحياة. كنت لا أزال متحفظة على الإيمان بالعقيدة الأساسية وهو ما دفعني في البداية لرفض الانتماء للطوائف المسيحية، وشعرت بأنني أريد أن أؤمن فقط بالمسيح وليس بأية طائفة لأنني ظننت أنهم ربما يكونون على خطأ أو مغالاة في عقيدتهم. لكنني وقفت لأسأل نفسي. إذا كنت أؤمن بالفعل أن الله قد قادني للمسيحية وأكد لي أنها طريقه الوحيد، وأن الرب يسوع هو المخلص. فهل يعقل أن يترك الله المسيحيون على ضلال لأكثر من ألفي عام؟ وأين الروح القدس الذي يقود المؤمنين والذي وعد الرب يسوع بأنه سيرشدهم لكل الحق؟ “وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ” (يو 14: 26).
وكنت أتساءل. ماذا لو اخترع المسيحيون هذه العقيدة التي لم تكن موجودة بشكل واضح قبل مجمع نيقية الذي أقر قانون الإيمان وعقيدة التثليث؟ ولماذا لم يعلن السيد المسيح هذه العقيدة بشكل واضح لتلاميذه عندما كان معهم؟ ووجدت نفسي أتوقف أمام الآية التي يقول فيها السيد المسيح: “إِنَّ لِي أُمُورا كَثِيرَة أيضًا لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إلى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ” (يو 16: 12- 14).
وهنا وجدتني أتساءل. ماذا لو كان ما توصلت إليه الكنيسة من قانون للإيمان وعقيدة التثليث واختيار الأناجيل الأربعة من بين مئات الأناجيل التي تمت كتابتها وتجميع الكتاب المقدس على هذا الشكل الموجود به حتى اليوم قد تم بالفعل بإرشاد الروح القدس؟ والدليل أنه حتى الآن ورغم انقسام المسيحيين لثلاثة طوائف رئيسية، إلا أنها جميعها تشترك في عقيدة التثليث وفي الإيمان بنفس الكتاب المقدس وصلب وقيامة السيد المسيح كأساس لا يمكن لأي شخص يدعى مسيحيا أن يرفض الإيمان به. ولذلك فالطوائف المبتدعة التي رفضت الإيمان بأي من تلك العقائد الأساسية تعتبر خارجة عن الإيمان المسيحي ومنهم الطوائف التي ظهرت مؤخرا كالمورمون وشهود يهوه والكنيسة الموحدة الذين قرأت بشكل موسع في عقائدهم ونشأتهم ووصلت ليقين بأنهم لا يمثلون المسيحية الحقيقية لأن الله لا يمكن أن يترك كل المسيحيين على ضلال لقرون طوال حتى يرشدهم في الأيام الأخيرة لخطأ من سبقوهم!
ومسألة المجامع الكنسية التي أثارت الكثير من الجدل والاتهامات للمسيحية بأنه تم تحريفها على أيدي الكهنة وأن الإمبراطور قسطنطين الذي دعا لمجمع نيقية الذي أقرت فيه عقيدة الثالوث هو الذي أفسد العقيدة وأدخل إليها عقائد وثنية. وجدت عندما قرأت بشكل موسع في تلك المسألة أن الهدف من هذه المجامع كان تنقية العقيدة والاتفاق على الأسس والثوابت المسيحية، لأن المشكلة الكبرى كانت في ظهور الكثير من البدع والهرطقات والعقائد الغريبة كآريوس ونسطور والغنوصية والسابيلية. وهو ما أدى لانشقاقات وتخبط، فكان لابد من اجتماع الأساقفة من كافة أنحاء العالم للتصدي لهذه الأفكار والإتفاق على ثوابت واحدة. ولاحظت أن تاريخ المسيحية مليء بالخلافات والانقسامات وحتى الحروب الطائفية بين المذاهب المختلفة لكن رغم كل ذلك ورغم انقسامهم حتى الآن بسبب أمور فرعية لا تمس صُلب العقيدة إلا أن ثوابت المسيحية بقيت واحدة، والكتاب المقدس هو نفسه الذي تؤمن به كافة الطوائف. وهذا أيضًا كان أحد أسباب عقد المجامع الكنسية. فقد انتشرت العديد من الأناجيل في القرون الأولى للمسيحية حتى وصلوا ربما لأكثر من ثلاثمائة إنجيل. وكان الكثير منهم غير معروف نسبه. فكان لابد من التأكد من الكتبة الثقات الذين يُشهد لهم بالأمانة والمصداقية. فتم وضع هذه الأناجيل الأربعة بالإضافة لسفر أعمال الرسل والرسائل ورؤيا يوحنا اللاهوتي لتكون كتب العهد الجديد بالإضافة لكتب العهد القديم وهي نفسها الموجودة لدى اليهود أيضًا.
وتؤمن الكنيسة أن الاتفاق على تلك الكتب بالتحديد قد تم بإرشاد الروح القدس. وعندما تساءلت. فلماذا لم يخبرهم السيد المسيح صراحة عن ألوهيته؟ وجدتني أجيب على نفسي بأنه لو كان قد فعل ذلك فلم يكن سيؤمن به أحد في ذلك الوقت، لكنه أرسل إشارات واضحة من خلال معجزاته وأمره للبحر والرياح بالتوقف وسيره على الماء. وأمره الأخير لتلاميذه بعد قيامته: “فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ” (مت 28: 19). لكن الأهم من كل ذلك ومالم أكن قد توقفت عنده من قبل وأثق بأن المسلمين لا يعلمون به هو السبب الذي دفع اليهود للمطالبة بصلب المسيح. فالقرآن يزعم أن اليهود قالوا أنهم قتلوا المسيح، وينفي ذلك قائلا: “وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ لَفِی شَكࣲّ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ یَقِینَۢا” [النساء ١٥٧]. إذا فهو يعترف على الأقل بأنه كانت هناك محاولة لقتله لكنه لا يذكر السبب الذي دفع اليهود لذلك وأثار غضبهم. فهل كان السبب أنه ادعى النبوة من وجهة نظرهم؟ وماذا قال الإنجيل حول هذا الأمر؟
وجدت في الإنجيل أن ما أثار حفيظة اليهود ضد السيد المسيح هو وصفه لنفسه بابن الله وماحدث ذات يوم أنه قال لهم:
● “أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ».فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَة بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ». فَرَفَعُوا حِجَارَة لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازا فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هكَذَا” (مت8: 56- 59) فما أغضب اليهود وأوصلهم ليحاولوا رجمه أنهم فهموا من كلامه أنه يتحدث عن كونه أزلي.
● ويقول الإنجيل: “فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أيضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلا نَفْسَهُ بِاللهِ” (يو 5: 18).
● “فَتَنَاوَلَ الْيَهُودُ أيضًا حِجَارَة لِيَرْجُمُوهُ. أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَعْمَالا كَثِيرَة حَسَنَة أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي. بِسَبَبِ أَيِّ عَمَل مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟» أَجَابَهُ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: «لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَل حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلها»” ( يوحنا 10: 31- 33).
● “فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ، لأَنَّ خُبْزَ اللهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاة لِلْعَالَمِ». فَقَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هذَا الْخُبْزَ». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدا” ( يوحنا 6: 32 -35). فهل علمت الآن لماذا طلب اليهود أن يقتلوا السيد المسيح؟ وهل رأيت كيف أوضح السيد المسيح أكثر من مرة بأنه أتى من السماء وأنه أزلي وأنه ليس كباقي البشر؟
أعلم تماما مدى صعوبة قبول مثل هذه الحقيقة على أي مسلم تربى على التوحيد، ويعتقد بأن الثالوث يناقض الإيمان بأن الله واحد. رغم أن قانون الإيمان المسيحي يبدأ بـ “بالحقيقة نؤمن بإله واحد. لكن الإنجيل يقول أيضًا وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ” (1 كو 12: 3). فالله وحده هو القادر أن يرشد البشر لهذه الحقيقة خاصة إذا لمس إيمانا صادقا بالوصول إليها. ورغم كل ما توصلت إليه فقد استمريت في الدعاء لله بأن يرشدني لحقيقة الثالوث وما إذا كان الله يريدني بالفعل أن أؤمن به. وتساءلت ما إذا كانت هناك أية رسائل إلهية على مدار الألفي عام تثبت حقيقة هذا المعتقد. خاصة أنني اكتشفت أن الرب يسوع لم ينقطع عن التواصل مع أتباعه بل ومع الكثير من غير المؤمنين من خلال المعجزات والأحلام والظهورات والرسائل المباشرة. وأعلم بالطبع أن الكثيرون لا يؤمنون بمثل هذه الأمور لكن هناك العديد من المعجزات الثابتة ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
واستجاب الله لدعائي المستمر بشأن هذا الأمر الذي كان يؤرقني بعد أن ظللت لفترة أشعر أنني مسيحية لكن ينقصني الإيمان بالمعتقد الرئيسي ورفضت أن أتبع باقي المسيحيين بغير قناعة حتى يؤكد الله لي هذه الحقيقة الفاصلة. ولم يخيب الله ظني ووجدته يرشدني لأمور أخرى. وجدت الكثير من القديسين يروون لقاءاتهم مع الرب يسوع ويتحدثون عن مجده وألوهيته. وجدت أشخاصا غير مسيحيين وليسوا فقط من المسلمين يتحدثون عن ظهور الرب يسوع لهم وتأكيد ألوهيته وبنوته للآب. إلى جانب الكثير من تجارب الاقتراب من الموت لمسيحيين وغير مسيحيين ومن بينهم ملحدين لم يكونوا يفكرون في المسيحية لكنهم مروا بتجارب روحية ورأوا السيد المسيح على العرش الإلهي وكثير منهم تغيرت حياته تماما بعد هذه التجربة وآمن بكل ما جاء في الإنجيل عن الرب يسوع.
فالقديس أوغسطينس أحد أهم أعمدة الفكر الغربي والمسيحي والذي كان وثنيا لفترة طويلة من حياته، لكنه وبعد إيمانه المسيحي عن اقتناع ظل مشغولا بمحاولة فهم وتفسير حقيقة الثالوث. وذات يوم وبينما كان جالسا على شاطئ البحر ليتفكر في هذا السر الإلهي رأى صبيا صغيرا يركض إيابا وذهابا بين البحر وحفرة صغيرة في الأرض. فاتجه نحوه وسأله: ماذا تفعل؟ أجاب الصبي وهو يحمل صدفة ينقل فيها الماء ويشير لحفرة في الرمال: أحاول أن أضع المحيط في هذه الحفرة الصغيرة. ابتسم القديس أوغسطينس من براءة الطفل وقال له: لن تستطيع أبدا احتواء هذا المحيط الرائع العظيم في هذه الحفرة الصغيرة. وتخيل بماذا أجابه الصبي. أجابه بسرعة: ولن تستطيع أنت أبدا فهم سر الثالوث الأقدس. وفي الحال اختفى الصبي والذي كان على الأغلب ملاكا من الله أتى ليوصل رسالة إليه بعدم المحاولة كثيرا لإدراك واستيعاب هذا السر وإنما علينا فقط الإيمان. حتى أن هذا القديس العظيم عمل لأكثر من ثلاثين عاما على كتابه ” الثالوث ” ولم يستطع أن ينتهي منه فتركه كبحث غير مكتمل.
ومن أجمل ما قرأت في وصف الثالوث القدوس والذي أبهرني وشعرت بالفعل بأنه وحي إلهي ما قرأته عن امرأة إيطالية تدعى ماريا فالتورتا . هذه المرأة بقيت لأكثر من ثلاثين عاما طريحة للفراش، لكن الله أنعم عليها بنعم ورؤى روحية مذهلة. كانت تتلقى رسائل متتابعة من الرب يسوع حتى أنه أراها حياته كاملة بتفاصيل أكثر من الموجودة في الإنجيل الأصلي وكان يلقبها ب “يوحناي الصغير” فكتبت “الإنجيل كما أوحي به إلي” وكشف لها الرب يسوع أسرارا لاهوتية أهمها عن الثالوث القدوس. وجدت كلاما لم أقرأه لكبار اللاهوتيين أو القديسين وشعرت بأنه لا يمكن إلا أن يكون بوحي إلهي حقيقي. فرغم أن الرب يسوع يؤكد لها أن فهم الجوهر الإلهي هو أمر يستحيل على أي عقل بشري لمحدوديته ولعدم جواز مقارنة وتشبيه الله مع أي كائن آخر. إلا أنه قال لها أنها من القلة القليلة التي سيحاول أن يشرح لها جوهر هذا السر العميق. واصفا الله بأنه نور وهو الأمر الأكثر وضوحا بالنسبة للبشر. ويشرح لها كيف يولد الإبن من الآب وكيف ينبثق الروح القدس وكيف يتحدون ببعضهم البعض. وكيف ينبثق من هذا الجوهر الإلهي كل الموجودات بالكون.
أعلم بالطبع أن هناك من سيهزأ مما أكتب ويعتبر أنها مجرد خرافات مسيحية الهدف منها تضليل غير المسيحيين. والحقيقة أنني عادة ما أميل لافتراض حسن النية لكنني في الوقت ذاته تعلمت أن أُحكّم عقلي وأيضًا مشاعري لكن قراري النهائي للحكم على أي أمر أتركه لتوجيه الله وإرشاده خاصة فيما يخص العقيدة. فليس لدي أي استعداد لأن أخسر أبديتي أو أن أغضب الله الذي أثق تماما في محبته لي قبل محبتي له.