الفصل الثاني
بداية رحلتي نحو النور

رغم عدم نشأتي في بيئة متعصبة تجاه المسيحيين أو أصحاب الديانات الأخرى إلا أنني وجدت نفسي تلقائيا كلما قطعت شوطا كبيرا في طريق الالتزام تزداد بداخلي كراهية أي شخص غير مسلم وبالأخص المسيحيين واليهود. وهو الأمر الذي يستحق التوقف عنده. فلست وحدي من وقع في ذلك لكنها تجربة عامة يلاحظ فيها كراهية من يفترض بأنهم “أهل الكتاب” أكثر من أصحاب الديانات الأخرى أو حتى الملحدين. هناك حالة من النفور والغضب حتى وإن كان غير معلن بشكل كبير تجاه المسيحيين واليهود تحديدا في ظل قناعة عجيبة عند غالبية المسلمين بأنهم يعلمون تماما أن الإسلام هو الحق لكنهم يرفضون اتباعه استكبارا منهم ليس أكثر. ولا عجب إن كان القرآن نفسه يقول: “وَدَّ كَثِیرࣱ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِكُمۡ كُفَّارا حَسَدࣰا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُوا۟ وَٱصۡفَحُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ” [البقرة ١٠٩] وفي آية أخرى “وَلَمَّا جَاۤءَهُمۡ رَسُولࣱ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَهُمۡ نَبَذَ فَرِیقࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ كَأَنَّهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ” [البقرة ١٠١] و”وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡیَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ وَلَىِٕنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَاۤءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِی جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرٍ” [البقرة ١٢٠] و”یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ” [المائدة ٥١] وغيرها من الآيات التي ترسخ حاجزا نفسيا بداخل كل مسلم يحرص على قراءة القرآن باستمرار. هي علاقة طردية بين التعمق في الإسلام وكراهية أهل الكتاب، وهو الأمر الذي تشبعت به تماما خلال السنوات التي حرصت فيها على أن أكون مسلمة ملتزمة، فكنت أشعر بحالة من النفور والضيق عند رؤيتي لأي رجل دين مسيحيا كان أم يهوديا سواء وجها لوجه، أم في التلفاز. كنت أشعر أن هؤلاء هم أئمة الضلال الذين يعرفون الحق ويرفضون اتباعه بل ويضلون اتباعهم بإخفاءهم الكتب الحقيقية غير المحرفة ويحتفظون بالآيات التي تؤكد نبوة محمد بعيدا عن متناول العامة حتى لا يدركون ضلال عقائدهم المنحرفة.
حتى جاء اليوم الذي شاهدت فيه أول مناظرة للشيخ أحمد ديدات “قاهر النصارى” كما يطلق عليه بعض المسلمين وشعرت بسعادة بالغة وأنا أراه يطرح تساؤلات صعبة على أحد القساوسة ويتمكن من إحراجه. كنت أرى انتصار الإسلام وسط دوي التصفيق في القاعة. ثم قررت استخدام محرك البحث على الإنترنت لأبحث عن المزيد عن هذا البطل المغوار ولدهشتي وجدت مقالا كتبه شخص يدعى “خالد عبد الرحمن” فظننته مسلما بالطبع لاسمه. لكنني فوجئت به يرد على أحمد ديدات ويؤكد له أنه قادر على أن يثبت له أن القرآن نفسه هو المحرف وليس الكتاب المقدس كما يدعي! كانت دهشتي كبيرة ولم أتمكن من فهم كيف لهذا المسلم أن يهاجم شيخا مسلما مثله يدافع عن الإسلام بل ويؤكد أن هناك تحريفا في القرآن. فاتجهت للصفحة الرئيسية للموقع لأجده بعنوان “الرد على الإسلام” ووجدت مقالا آخر لهذا الشخص يروي فيه قصته وتحوله من الإسلام إلى المسيحية رغم كونه دارسا للشريعة الإسلامية. كانت المرة الأولى التي أقرأ فيها قصة أحد المتنصرين وفي ذلك الوقت كانت قناة الحياة التي أسسها القمص زكريا بطرس قد بدأت في عملها التبشيري الذي لقى هجوما واسعا وكنت قد طالعت جزءا صغيرا من برنامج له ووجدته يشن هجوما لاذعا على محمد وهو ما أثار غضبي وقتها بالطبع فلم أرغب في الاستماع لما يقوله. وسمعت أن هناك منظمات تبشيرية تعمل في إفريقيا وبعض المناطق الفقيرة في العالم لتنصير المسلمين الفقراء الجهال من خلال إغوائهم بالمال. فكانت هذه هي فكرتي الوحيدة عن هؤلاء الذين يتركون الإسلام. لكن قصة ذلك الشخص المدعو خالد عبد الرحمن والتساؤلات التي طرحها في صلب العقيدة كانت الصدمة الأولى لي حيث وجدت شخصا يدعي معرفته بالشريعة والفقه الإسلامي إلا أنه قرر ترك الإسلام بكامل إرادته واقتناعه دون أية ضغوطات أو إغراءات. لكنني بالطبع سرعان ما قررت التشكيك في قصته وشخصيته واعتبرت أن هذه القصة هي ولابد من اختراع بعض النصارى الذين يرغبون في بث سمومهم وشكوكهم في نفوس المسلمين. لكنني شعرت بفضول للبحث عن المتنصرين ومعرفة ما وراءهم فلم أكن أتخيل أن هناك شخصا قد عرف الإسلام جيدا واقترب من الله ومارس الفروض الدينية وقرأ سيرة محمد ثم يقرر بكامل عقله وإرادته أن يترك هذا الدين ويرتد إلى عقيدة النصارى الضالة الفاسدة كما كنت أعتبرها في ذلك الوقت. ولصدمتي وجدت العشرات من القصص لمن يسمون أنفسهم بالعابرين أو المتنصرين الذين يقصون حكاياتهم ودوافعهم لترك الإسلام واعتناق المسيحية. ووجدت من يدعي أنه من إيران وآخر من السعودية وأخرى من مصر أو تركيا أو الكويت وغيرها من الدول التي لم أكن أتخيل أن يوجد بها مثل هؤلاء.
في البداية أصبت بحالة من التشكك والرفض القاطع لأن تكون هذه القصص أو الشخصيات حقيقية واعتبرتها مؤامرة صليبية على الإسلام لإظهار أن هناك من يتركه بملء إرادته. ثم سرعان ما أصابني الفزع والغضب معا وتساءلت: [ماذا لو كانت هذه القصص حقيقية بالفعل وماذا لو كان البعض ممن يروون معجزات حدثت معهم أو توقفوا أمام عشرات التساؤلات في الإسلام والمسيحية لا يكذبون؟ خاصة وأن هناك بعض النقاط التي تم ذكرها تبدو منطقية بشكل يرفض عقلي أن يفكر به حتى مجرد التفكير أو يطرحه لأي نقاش ولو داخلي. واعتبرت أن اكتشافي لهذا الأمر يستلزم أن أقوم بأي فعل لإيقاف هذا الخطر المحدق بديني العزيز وفكرت بأن علي أن أرسل مثل هذه القصص لكبار الدعاة والشيوخ ليردوا على ما جاء بها وليضعوا حدا لهذه المهزلة. أتذكر أنني كنت على وشك البكاء حزنا على هؤلاء المرتدين الذين ضلوا طريقهم وكنت أفكر كيف لشخص أن يضل بعد أن منَّ الله عليه بنعمة الإسلام؟ كيف يجرؤ على ارتكاب مثل هذه الجريمة الشنعاء التي تستحق القتل في الدنيا والإلقاء في نار جهنم في الآخرة إلى أبد الآبدين؟!
وجدني أبي وأنا في حالة من التأثر الشديد وعندما أخبرته بما اكتشفت، طلب مني عدم الدخول لتلك المواقع أو قراءة تلك القصص مجددا كي لا تؤثر عليَّ. فتعجبت من مجرد تخوفه أن تترك مثل هذه القصص أي تأثير يُذكر عليَّ. وهل يمكن أن أجن يوما ما وأفكر مجرد التفكير في أن أرتد عن الإسلام وأتركه إلى دين آخر وبخاصة الدين المسيحي؟ أنا التي كنت أدعو الله ليل نهار أن يلحقني بمحمد في الفردوس الأعلى لأن هذا هو الفوز الأكبر!
لكن ما حدث بالفعل أن بعض النقاط التي مررت عليها كانت قد أضاءت مصابيح صغيرة داخل عقلي المعتم وبدأت في الشعور بأن بعضها منطقيا خاصة ما يتعلق بحقوق المرأة وتعدد الزوجات واستباحة الجواري والغنائم والحروب باسم الجهاد وماذُكر عن وجود أخطاء لغوية وعلمية وتاريخية وجغرافية في القرآن وهي أمور لم أجد لنفسي حتى إجابات منطقية عليها. لكنني خفت حتى من مواجهة نفسي بمنطقية كل ما يقال فقررت التوقف فورا عن تصفح مثل تلك المواقع التي أصبحت في تلك الفترة هي شغلي الشاغل. وبدأ الخوف يتسرب إلى قلبي نتيجة مجرد تفكيري في بعض ما قرأت فاستغفرت الله سريعا وطلبت منه أن يسامحني على تلك الخواطر الصغيرة التي تسللت خلسة إلى عقلي. وفكرت وقتها بأن هذا قد يكون مدخلا للشيطان للإيقاع بي في براثن الشكوك وزعزعة إيماني القوي. فالشيطان لن يتركني أنعم بالسلام وسيحاول إبعادي عن الطريق القويم بشتى الطرق لكن هيهات فلن أترك له الفرصة وسأبتعد تماما عن كل ما قد يثير بداخلي أي ذرة شك أو تساؤل قد يثير عليّ غضب الله الذي لن أتحمله.
لكن الله كان قد بدأ في قلبي عملا يحركه بخطة دقيقة أتعجب كثيرا عندما استرجعها. فبعد قراري هذا وعودتي للتركيز على طقوسي الدينية المعتادة وقراءاتي الإسلامية التي قررت التوسع فيها لأقضي على أية ذرة متبقية من تلك الشكوك. كنت أتناقش مع والدي ذات يوم حول أمر ما عن اليهود ففوجئت به يقول لي “هل ترغبين في قراءة التوراة؟” فأجبت “ولم لا؟ ولكن هل لديك نسخة منها؟” فأخبرني بأنه يمتلك نسخة قديمة ولكن في شقته الأخرى التي يستخدمها كمكتب وأنه كان قد حصل عليها من أحد الأصدقاء. فطلبت منه أن يحضرها لي لأقرأها لأتعرف أكثر على عقيدة اليهود فقط لإشباع فضولي عنهم.
بعد بضعة أيام وجدت أبي يمد يده إليَّ بكتاب يبدو قديما وعلى غلافه الرئيسي صليب. فقط صليب محفور في الغلاف دون أية كتابة عليه. وعندما فتحته وجدت مكتوبا بداخله “الكتاب المقدس” ووجدته مقسوما لجزئين جزء كتب عليه “العهد القديم” والجزء الأصغر يسمى “العهد الجديد” وأدركت أن هذا الكتاب يضم التوراة والإنجيل سويا، فشعرت بسعادة كبيرة لأن بداخلي كانت هناك رغبة في التعرف عن قرب على الإنجيل وقراءة آياته خاصة التي كنت أسمع عنها وأيضًا ما قرأته في قصص بعض هؤلاء المتنصرين. كان بداخلي شوق ممتزج بالفضول نحو هذا الكتاب وقلت لنفسي ربما أراد الله أن أقرأه في ذلك التوقيت لأكتشف بنفسي الأجزاء المُحرّفة وأتمكن من نقده حتى لا تداخلني مجددا أية شكوك أخرى، بل ومن الممكن أن أتمكن من دراسته لأقوم بمجادلة المسيحيين وربما إقناعهم بخطأ عقيدتهم. وبالفعل اتخذت تلك النية قبل أن أبدأ بالقراءة وكان من المفترض أن أبدأ منذ البداية بالتوراة وكتب العهد القديم لكنني وبعد عدة أيام وكنت لا زلت في سفر التكوين وجدت أن فضولي يزداد لكي أصل إلى العهد الجديد أو الإنجيل، فقررت بالفعل أن أتوجه مباشرة إليه دون استكمال كتب العهد القديم التي بدت طويلة جدا وستستغرق مني الكثير من الوقت.
بدأت بإنجيل متى وهو أول كتاب من كتب العهد الجديد وكان شعوري غريبا يختلط فيه التوجس بالفضول، ووصلت الإصحاح الخامس حيث كان السيد المسيح يخاطب جموعا كانوا يتبعونه ويلقي عليهم تعاليمه التي كنت قد سمعت بالقليل منها من قبل مثل “…مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أيضا” (مت 5: 39). لم أكن أعرف أن هذا الجزء يطلق عليه “موعظة الجبل” وأن به خلاصة التعاليم المسيحية لكنني شعرت بمتعة عجيبة وأنا أقرأ بنهم شديد وتأثر جعلني أدمع من فرط رقي وجمال هذه التعاليم التي لا يمكن إلا أن تكون سماوية. وداخلني إدراك يصل لحد اليقين بأن هناك تعارضا كبيرا بين هذه التعاليم والتعاليم الإسلامية بشكل واضح وغير مبرر. فكيف يكون الاثنان من ذات المصدر لكنهما يجيئان بتعاليم متناقضة؟
آمنا في الإسلام بأن السيد المسيح هو نبي من أولي العزم من الرسل ومن أبرز الأنبياء الذين كرمهم القرآن وكرم والدته السيدة مريم العذراء وامتدح تقواه فلماذا يقول مثلا “سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أيضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أيضا”. في حين يقول القرآن “وَكَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیهَاۤ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَیۡنَ بِٱلۡعَیۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصࣱۚ” [المائدة ٤٥]. فلماذا يبدل الله أحكامه؟ بل وأيهما أفضل أن يسود التسامح وعدم أخذ بالثأر أم المعاملة بالمثل والقصاص الذي يدخل البشر في كثير من الأحيان في دوامة لا تنتهي من الصراع؟ ولماذا يأمر السيد المسيح أتباعه بالصلاة في بيوتهم قائلا: “وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إلى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إلى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَة”. (متى6: 5، 6) أما الإسلام فيحث على صلاة الجماعة بشكل حاسم، وحتى عندما أتى شخص أعمى يستأذن محمدا في أن يصلي بمنزله لأنه لا يرى الطريق ولا يجد من يقتاده إلى المسجد فكان رده عليه “لا أجد لك رخصة!” وهو حديث يدل على فقدان أبسط معاني الرحمة لمن يوصف بأنه رحمة للعالمين. وتوقفت عند الصلاة التي علمها لهم السيد المسيح وكنت قد سمعتها من قبل لكنها في تلك المرة لمست قلبي بشكل قوي «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أيضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إلى الأَبَدِ. آمِينَ”. (متى6: 9- 14) ووجدتني أشعر بعدم استهجان لوصف الله بالأب وهو الأمر الذي كان يثير حفيظتي وحفيظة كل المسلمين لأن القرآن يقول: “وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰۤؤُا۟ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰۤؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرࣱ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ یَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۖ وَإِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ” [المائدة ١٨] فهل أخطأ السيد المسيح بوصفه الله بالآب وطلبه من أتباعه اعتباره كذلك وهو أمر واضح في الإنجيل ككل؟ ولم لا نعتبره أبا؟ أليس هو مصدر وجودنا وهو من يعتني بنا ويرزقنا ويحبنا أكثر من الأب الحقيقي؟
لا أدري لماذا تعلقت كثيرا بفكرة أن يكون الله أبي وشعرت بأنها مصدر فخر واطمئنان وراحة أن أعتبر الله كأب سماوي يرعاني ويحبني. ووجدتني أتعمق في قراءة الصلاة الربانية أكثر من مرة مستمتعة بكل كلمة بها. وبالنسبة للطلاق، فقد وجدت أن السيد المسيح قد حرّم الطلاق إلا في حالة واحدة قائلا: “وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَق. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَة فَإِنَّهُ يَزْنِي” (متى 5: 31 – 32) في الوقت الذي أحل فيه الإسلام الطلاق دون قيد أو شرط وهو ما تسبب ولا يزال في تفكك ملايين الأسر. ناهيك بالطبع عن تشريع تعدد الزوجات وهو الأمر الذي كان دائما ما يثير ضيقي فلم أكن أتخيل أن أوافق يوما ما على أن أكون ضُرة لأي امرأة أخرى أو أقبل بأن يتزوج زوجي عليّ لأي سبب كان. كنت أشعر بأن في هذا الوضع ظلم كبير لأي امرأة لا تقبل بفطرتها السليمة أن تشاركها امرأة أخرى في زوجها مهما كانت الأسباب.. الطلاق قد يكون أهون بكثير من قبول وضع كهذا. ولدهشتي وجدت أن السيد المسيح يؤكد على أنه “وَلَكِنْ مِنْ بَدْءِ ٱلْخَلِيقَةِ، ذَكَرا وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا ٱللهُ. مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ ٱلِٱثْنَانِ جَسَدا وَاحِدا. إِذا لَيْسَا بَعْدُ ٱثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَٱلَّذِي جَمَعَهُ ٱللهُ لَا يُفَرِّقْهُ إِنْسَانٌ” (مرقس 10: 6 – 9)
يا الله، ما كل هذا الرُقي في الحديث عن علاقة الرجل والمرأة؟ ما هذا التقديس لرباط الزواج؟ أو ليس من المفترض أن تكون العلاقة على هذا النحو من القداسة وليست كما يقول القرآن: “فَٱنكِحُوا۟ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ فَوَ ٰ⁠حِدَة أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۚ ذَ ٰ⁠لِكَ أَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَعُولُوا۟ [النساء ٣] على الرغم من أنه يؤكد في آية أخرى: “وَلَن تَسۡتَطِیعُوۤا۟ أَن تَعۡدِلُوا۟ بَیۡنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡ” [النساء ١٢٩] ورغم ذلك أباح التعدد بل وأباح إقامة علاقات غير محدودة مع الإماء فهن لا يُحسبن من ضمن الزوجات الأربع. كنت أشعر بأن تعاليم السيد المسيح هي الأقرب للرحمة والتسامح والإنسانية والفطرة السليمة لكنني كنت أحاول الهرب من هذه القناعة رغم أنني لم أجد بداخلي إجابة مقنعة لتلك التساؤلات.
أما الأمر الذي أثر فيَّ بل وصدمني بشكل كبير ما عرفته من إصابة الداعية أحمد ديدات بالشلل الكامل لمدة تسع سنوات قبل وفاته حيث فقد القدرة على النطق والحركة. وقد يرى البعض أن هذا ابتلاء عادي من الله، والمؤمنون يُبتلون بالكثير من الأمراض وأن هذا ليس دليلا على غضب أو عقوبة من الله. لكن ما لا يعرفه الكثير من المسلمين أن الشيخ أحمد ديدات في إحدى مناظراته التي سمعتها ورأيتها بنفسي قد خاطب الله قائلا “إن كنت أنطق بالباطل فليشل الله لساني” وهو ما قد حدث بالضبط. فهل يعرف المسلمون الذين يتباهون به هذه القصة؟ وما هو تفسيرهم لذلك؟ فوقتها لم أجد تفسيرا بالفعل لما حدث لكن كان من الواضح أن الله استجاب له وأراد إرسال رسالة واضحة للجميع ليُميز الحق من الباطل. وبعدما انتهيت من قراءة الأناجيل الأربعة “متى ومرقس ولوقا ويوحنا” اكتشفت أن قصة صلب المسيح هي نفسها في الأناجيل الأربعة ولم تكن مجرد قصة تم اختلاقها فيما بعد، لكنها كانت الأساس الذي بنيت عليه المسيحية. فصلب المسيح وقيامته هما جوهر الإيمان الذي بشر به تلاميذه في العالم أجمع بل وتحملوا جميعا العذاب والاضطهاد في سبيل الدعوة إليه. ومن يقرأ الإنجيل سيكتشف أن السيد المسيح نفسه أخبر تلاميذه قبل حادثة الصلب أكثر من مرة بأنه أتى ليتمم نبؤات العهد القديم بشأن صلبه وقيامته في اليوم الثالث وأن مهمته الأساسية التي أتى من أجلها إلى الأرض هي الفداء والخلاص للبشرية. وقد حضر واقعة الصلب تلميذه يوحنا وأمه السيدة مريم وتحدث معهما حيث أوصاه بأمه قائلا “«يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ». ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ»” (يوحنا 19: 26، 27) وبالفعل ضمها القديس يوحنا إليه منذ ذلك الوقت
كما رفع السيد المسيح عينيه إلى السماء وسط آلام صلبه مخاطبا الآب السماوي: “فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»” (لو 23: 34). وخاطب اللص الذي كان عن يمينه وآمن بأنه ابن الله وطلب منه أن يكون معه في الملكوت قائلا له: “فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ»” (لو 23: 43). فهل كل هذه الوقائع تم اختلاقها؟ وهل سمح الله بأن تقوم الديانة المسيحية منذ نشأتها على كذبة؟ بل وانتظر لستمائة عام حتى يرسل نبيا آخر ليكشف حقيقة ما حدث ويفند كل ما آمن به المسيحيون جميعا على مدار ستمائة عام ويخبرهم بأن من صلب وقُتل لم يكن المسيح بل مجرد شبيه له؟ فكيف يسمح بمثل هذه المسرحية الهزلية ويخفي كل الحقائق حتى عن أم المسيح نفسها وأتباعه وجميع المؤمنين ثم يظهر الحق بعدها بستة قرون؟
أما الأمر الآخر الذي توقفت عنده وقتها، فكان: إذا كان القرآن يؤكد أن الله أنزل كتاب يسمى الإنجيل على السيد المسيح فلماذا لجأ تلاميذه ثم الكثير من المؤمنين فيما بعد لكتابة أناجيل متعددة يحمل كل منها اسم كاتبه فهناك إنجيل متى وإنجيل لوقا ويوحنا ومرقس وهناك الكثير غيرهم، لكن تم اختيار هذه الأناجيل الأربعة لدقتها والتأكد من مصداقية من كتبوها واستبعاد الأناجيل الأخرى المجهولة. والمقصود بكلمة الإنجيل البشارة أو الأخبار السارة وهي الفداء. ولم يذكر أي مسيحي على مر التاريخ أن هناك كتاب أنزل على السيد المسيح أثناء حياته وإلا فأين ذهب؟ هل تم إخفاؤه أو ضياعه بشكل كامل؟ وكيف لم يحافظ عليه التلاميذ أو المؤمنون؟ ولماذا لجأوا لكتابة العديد من الأناجيل إن كان هناك كتابا مقدسا أعطاه لهم السيد المسيح بنفسه؟ وهل يعقل أن يختفي مثل هذا الكتاب الهام ويتجرأ المؤمنون على تأليف كتاب مقدس بأنفسهم يستبدلوا به كلام الله؟ فالتحريف المذكور في القرآن يُقصد به تبديل بعض الآيات وليس إخفاء الكتاب بالكامل واستبداله بكتب أخرى. وإذا كان هناك شخص أو مجموعة من الأفراد أو طائفة من الطوائف قد تعمدت التحريف فهل سمح لها بذلك كل المؤمنين المتواجدين في ذلك الوقت؟ ألم يوجد مؤمن واحد يتصدى لهذا التحريف ويحافظ على النسخة الأصلية؟ وهذا ينطبق بالمثل على التوراة التي يطلب القرآن من المسلمين الإيمان بها مؤكدا في القرآن “وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ” [آل عمران ٣]. بل ويخاطب اليهود والمسيحيين قائلا: “قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَیۡءٍ حَتَّىٰ تُقِیمُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ …” [المائدة ٦٨]، فكيف يطالبهم بالالتزام بكتب محرفة؟ بل ويصف التوراة قائلا: “إِنَّاۤ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِیهَا هُدࣰى وَنُورࣱۚ یَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِیُّونَ ٱلَّذِینَ أَسۡلَمُوا۟ لِلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلرَّبَّـٰنِیُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ …” [المائدة ٤٤] وفي آية أخرى يتحدث عن الإنجيل: “وَقَفَّیۡنَا عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِم بِعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ ٱلۡإِنجِیلَ فِیهِ هُدࣰى وَنُورࣱ وَمُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَهُدࣰى وَمَوۡعِظَةࣰ لِّلۡمُتَّقِینَ” [المائدة ٤٦]، فلم يذكر هنا أي تحريف بل امتدح التعاليم الموجودة في الكتابين باعتبارهما تعاليم إلهية. وهناك آية توقفت عندها حيث يقول القرآن على لسان السيد المسيح: “وَمُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ …” [آل عمران ٥٠] وهذا صحيح فالسيد المسيح لم يذكر أبدا أن التوراة قد تم تحريفها بل على العكس كان دائما ما يستشهد بآياتها، كما أوصى الناس قائلا: “فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاة أَبَدِيَّة. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي” (يو 5: 39). وقال أيضا: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ” (مت 5: 17)، والمسيحيون حتى الآن يؤمنون بنفس التوراة وكتب العهد القديم التي يؤمن بها اليهود حتى اليوم بنفس النصوص تماما. فإذا كانت التوراة قد حُرّفت فمتى حدث ذلك؟
كان صوت تلك التساؤلات المنطقية يعلو في ذهني يوما تلو الآخر لكنني كنت أسكتها بسؤال استنكاري واحد “هل سيكذب النبي محمد؟” فلم أكن أستطيع أن أشكك في نبوة محمد أو أقواله حتى وإن كانت هناك دلائل قوية تستحق التوقف عندها والبحث فيها. فقط حاولت البحث على الإنترنت عن إجابات لبعض هذه التساؤلات في مواقع مخصصة للرد على ما يسمونها “بالشبهات” لكنني لم أجد أية إجابة منطقية لتساؤلاتي. تلك الشكوك أصابتني بحالة من الخوف الشديد خشية أن يكون الشيطان هو من يرغب في إبعادي عن طريق الحق ومن أن الله بلاشك سيغضب مني لشكي في دينه الحنيف.
فقررت أن أصلي صلاة توبة وأستغفر الله وأعاهده على عدم التفكير في مثل هذه “الشبهات” وقررت أن أعمل على تقوية إيماني والتركيز على عباداتي خاصة وقد كنا وقتها في شهر رمضان الذي تتسلسل فيه الشياطين. فطلبت من الله أن أرى رؤيا لمحمد لأنني كنت في أشد الاحتياج إليها في ذلك الوقت لتقوية إيماني وإزالة أية شكوك من نفسي. وأتذكر أنني ألححت على الله في الدعاء في أيام العشر الأواخر التي يفترض المسلمون أن الله يستجيب فيها الدعاء أكثر من أي وقت آخر لوقوع ليلة القدر بها. وفي ليلة محددة ألححت كثيرا على الله بهذا الطلب وبعدما نمت رأيت أنني أقف وأمامي السيد المسيح بلباس أبيض وعن يساره السيدة مريم العذراء بلباس أبيض أيضًا وأنا أقف أمامهما أتحدث إليهما وهما مُنصتان في صمت ثم نهضت من نومي. كنت في حالة عجيبة. فبين شعور باليقين من أن هذه رؤية حقة وليست مجرد أضغاث أحلام حيث كنت متأكدة من أنني رأيت السيد المسيح والسيدة مريم العذراء وياله من شرف! لكنني في الوقت ذاته شعرت بخيبة أمل كبيرة وتعجب فلم يكن هذا إطلاقا هو ما أردته بل على العكس كنت أريد رؤية محمد لأنسى تعلقي بالسيد المسيح فإذا بي أرى ما لم أتمنى، فلم يارب؟ هل تقصد أن تزيد من حيرتي؟ ألا ترغب في أن أتخلص من تلك الشكوك وأستعيد إيماني وسلامي وأعود تلك المسلمة التقية؟ لكنني في الوقت نفسه شعرت بفرح وشرف أن يَمِنَ الله علي بهذه الرؤية فأنا أعلم أنني غير مستحقة لمثلها.
إلا أنني قررت أن أقنع نفسي بأن هذه الرؤية ربما تكون من الشيطان لأنه يرغب في تشويش أفكاري وإبعادي عن الحق. فمن غير الممكن أن أعتمد على مجرد حلم لأبني عليه قرارات مصيرية. وكان قراري بإغلاق هذا الملف والعودة لحياتي السابقة. لكنني كلما قرأت القرآن أجدني أتوقف عند بعض الآيات التي أثارت شكوكا لم أتمكن من القضاء عليها، فقللت قراءاتي ووجدتني تدريجيا أفقد حماسي لأداء صلاة الفجر أو أداء صلوات السنن الإضافية أو الذهاب للمسجد لحفظ القرآن. واكتفيت بأداء الفروض والتوقف عن التفكير في أية أمور إيمانية.
شعرت بفجوة تتسع مع الإسلام خصوصا مع ما كنت أراه من تصاعد لموجة العنف والإرهاب الإسلامي في العالم ورغم ذلك كان البعض يتسابقون لتبرئة الإسلام من هذا العنف بدعوى أن هؤلاء الإرهابيين لا يعرفون صحيح الدين السمح المسالم وأن هذه الأفكار هي لبعض الشيوخ المتشددين الذين شوهوا حقيقة الإسلام. متجاهلين أن فقه هذه الجماعات قائم بالأساس على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وسيرة السلف وتاريخ الغزوات والبطولات. فكل ما قام ومايقوم به أتباع تلك الجماعات التي بدأت من بعد سقوط الخلافة الإسلامية له أساس ديني قوي وأعلم ذلك جيدا بحكم إطلاعي على هذا الفكر لفترة طويلة فهؤلاء هم من يطبقون الإسلام بحق وليس دعاة الإسلام الوسطي الجميل الذين يرغبون في إخفاء الحقائق لنفي تهمة الإرهاب عن الإسلام. فهل أخطأ أتباع جماعة الإخوان المسلمين والجهاد الإسلامي والقاعدة وأبو سياف وجماعة الشباب الصومالية وتنظيم القاعدة وجيش النصرة وبوكو حرام وحزب الله وتنظيم داعش في فهم صحيح الدين والاطلاع عليه؟!
كنت أشعر بالنفور الشديد خصوصا مع المآسي التي كنا نسمع عنها مع حكم تنظيم داعش أجزاء من سوريا والعراق وتطبيقهم للشريعة وحدودها من قطع للأيادي وسبي للنساء. فلم أكن أتمنى أن أشارك هؤلاء جنتهم المزعومة يوما ما إن كان الله حقا سيقرر إدخالهم إليها. كنت أمر بمرحلة من النضج الفكري خاصة بعد انتهاء دراستي الجامعية وتوسعي في القراءات، وبدأت أميل لتقبل جميع الديانات والأفكار ووصلت لقناعة بأن لكل شخص الحق في اختيار أي طريق للوصول إلى الله وأنه سيتقبل حتما أي أحد طالما يبتغي مرضاته ويظن أنه على الطريق الحق لأن الله يهتم بالنوايا والقلوب والأفعال الحسنة والخير أكثر من العبادات والأديان. ظللت على تلك القناعة لسنوات اعتبرت نفسي فيها متفتحة مبتعدة عن التعصب وتكفير الآخرين وصنفت نفسي كمسلمة “معتدلة” لا تحكم على أحد. فالله هو من سيحاسب الجميع في الآخرة ولسنا بديلا له لحساب الناس على الأرض.
كانت الأفكار التي بقيت في قلبي وعقلي من خطبة الجبل قد أصبحت شيئا فشيئا هي الأساس لقناعاتي، فكنت أؤمن بتعاليم السيد المسيح وأراها الأسمى والأكثر قدرة على خلق واقع تسمو فيه قيم السلام والتسامح والمحبة لكنني في الوقت نفسه كنت أؤمن بالعقيدة الإسلامية البسيطة والواضحة بعيدا عن فكرة الثالوث التي كانت العائق الأكبر بالطبع أمام فهمي واقتناعي بالمسيحية. لكنني رغم ذلك لم أنعم بالسلام الداخلي أبدا فكنت أشعر بفجوة وبعدم تصديق لما أدعيه من أن كل الطرق تؤدي إلى الله. آمنت بأنه لابد وأن يكون هناك طريق واحد حق وأن علينا البحث عنه واتباعه مهما كلفنا ذلك. وأن فكرة بقاء كل شخص أسيرا للدين الذي رباه عليه والداه أو وجده مكتوبا في شهادة ميلاده أو بطاقته هي فكرة خاطئة تماما. وأن علينا جميعا عندما نصل لمرحلة من النضج أن نقرأ في كل الكتب المقدسة ونبحث عن الحق دون تحيز والأهم أن نسأل الله أن يهدينا إلى طريقه فهو وحده من يعلمه. وإن اعتمدنا على عقولنا وحدها أو ما يخبرنا به المجتمع والأسرة كحقيقة مُسلّم بها فربما نجد أنفسنا على أعتاب جهنم الأبدية دون أمل في الخلاص. وقتها سيسألنا الله عن سبب تقصيرنا وعدم بحثنا عن طريقه وطلب معونته وهدايته دون خوف أو استكبار. فقررت أن أقرأ بنهم في كافة المعتقدات اليهودية والمسيحية والهندوسية والبوذية والبهائية وعن الدروز والصابئة وعن الشيعة والمتصوفة. ووجدتني أنجذب للصوفية باعتبارها تتبنى مبادئ التسامح والمحبة وحب الله لذاته وجلاله وليس طمعا في الجنة أو خوفا من النار وهي المبادئ الأقرب للمسيحية منها الإسلام مع الحفاظ على العقيدة الإسلامية وهو ما كان يتوافق وتفكيري في ذلك الوقت.
لكنني شعرت بأن شيئا ما خاطئا خاصة وأن الفكر الصوفي يخالف بعض أحكام وتعاليم الإسلام بشكل واضح وهو ما يأخذه عليهم السلفيين أو الملتزمين دينيا. فلا يمكن أن نختار من الإسلام ما يعجبنا ونترك ما نرفضه ثم نأخذ من دين آخر تعاليم أخرى. فالقرآن نفسه يستنكر ذلك قائلا: “أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ” [البقرة ٨٥]؟ لذلك كنت أشعر بداخلي بحالة من التخبط والخوف من أن أموت في أي وقت وأنا على هذا الحال. ورغم حرصي على أداء الصلاة والصيام وارتداء الحجاب لكنني كنت أشعر بعدم انتماء حقيقي للإسلام وتعلق شديد بالسيد المسيح مع خوف من الإيمان بالعقيدة المسيحية وفزع مما قد يحدث لو اخترت طريقا خاطئا. فكنت أدعو الله ألا أموت وأنا على هذا الحال وأطلب منه أن يرشدني للحق أنا وأسرتي. لم يكن يحركني فقط الخوف من عذاب النار وإنما كان بداخلي منذ الصغر حب لله ورغبة في إرضاءه فلم أكن أريده أن يغضب عليَّ أبدا. كنت أشعر بحبه لي وقربه مني دائما واستجابته كثيرا لدعواتي في أمور صعبة لكنها حتما لا تصعب عليه. كنت أشعر بلطفه يسبق قدرته وبأبوته الحقيقية لي ولذلك أحببت كثيرا الصلاة المسيحية حتى كنت أقولها أحيانا وأناجي بها الله بعد انتهائي من صلاتي الإسلامية! لم أكن أشعر بأن الله سيغضب عليَّ إن اعتبرته أبي السماوي، وهل أخطأ السيد المسيح عندما علّم أتباعه تلك الصلاة الوحيدة وطالبهم دائما باعتبار الله أباهم السماوي الرحيم؟ وهي الصورة التي أحببت أن أتخذها عن الله خالق الكون. فمبدأ العبودية الذي يقوم عليه الإسلام في تصوير العلاقة بين الإله والبشر أراه يؤسس لعلاقة ذات فجوة واسعة لا تسمح بوجود علاقة شخصية بيننا وبين الله. علاقة تقوم على الثواب والعقاب وليس على المحبة. وربما هذا هو أكثر ما جذبني للمسيحية. فحتى عندما كنت شديدة الالتزام بالإسلام لم أكن أحب سماع الخطب التي تتحدث عن عقاب الله، لم أحب أبدا أسلوب الترهيب والحديث عن عذاب القبر والنار وغضب الله. كان هذا الأسلوب يصيبني بالنفور والخوف ويبعدني أكثر عن الله. كنت أحب كثيرا سماع من يحدثني عن حب الله لعباده وحرصه على الاقتراب منهم وكان الحديث القدسي الأحب إلى قلبي “من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة” وحديث “أن الله أرحم بعباده من الأم بولدها” وأن الله يباهي بنا الملائكة عندما نجتمع لذكره ويقول لهم “أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم”
وذات يوم قررت الذهاب لزيارة منطقة تاريخية تضم مساجد وكنائس أثرية يزورها عادة السياح وأهل البلد مسلمين ومسيحيين، وكان هدفي من تلك الزيارة أن أشبع فضولي بالتواجد داخل كنيسة، وبالفعل ذهبت وحدي متخذة الهدف السياحي ذريعة لاستكشاف المكان وبمجرد دخولي واستغراقي في التطلع للأيقونات وإشعال شمعة كما كان يفعل بعض المتواجدين. شعرت بسلام وفرح ورغبة في البقاء داخل هذا المكان المريح لكنني خفت من إثارة الشكوك ولم أجد ما سأفعله حيث قص علي أحد المرشدين تاريخ الكنائس المجاورة فقمت بزيارتها لأمتلئ من هذا الفرح العجيب.
وأكملت طريقي على هذا المنوال حتى تقدم لي زميل عمل للخطبة وكنت أفكر وقتها هل سيتم الأمر أم لا؟ وذات ليلة حلمت بامرأة لا أعرفها لكنني أدركت على الفور أنها مسيحية وأن الله قد أرسلها لي. وأخبرتني بأن الله يقول لي أن الضيق الذي أجتاز به سينتهي قريبا – وكنت بالفعل أمر وقتها ببعض المشكلات – وأثناء الحلم فكرت بأنها إذا كانت قادمة من عند الله فستعرف ممن سأتزوج وعندما سألتها أخبرتني بأنني مخطوبة للمسيح! وعندما استيقظت شعرت بالفعل أنها رؤية من الله لأنني تذكرت تفاصيلها جيدا وهو ما لا يحدث لي عادة لكنني تعجبت كثيرا لهذه الجملة الأخيرة التي قالتها لي. فماذا تعني بأنني مخطوبة للمسيح؟ وكنت قد قرأت ذات مرة بأن الراهبة تعتبر مخطوبة للمسيح ولذلك لا تتزوج على الأرض لأنها ستكون عروسا للمسيح في السماء. والمقصود كما فهمت فيما بعد هو الارتباط الروحي وليس الجسدي بالطبع، فالزواج هو رباط مقدس والمسيحيون يرتبطون رباطا أبديا بالمسيح. لكنني وقتها تحيرت من تفسير معنى الحلم، فهل يعني ذلك أنني لن أتزوج وسأصبح راهبة يوما ما؟ فقررت أيضًا التشكيك في هذا الحلم وقلت ربما هي أضغاث أحلام وانشغال داخلي بالمسيحية أو شيء من الشيطان ليزيدني ارتباطا بها. وكنت قد قررت بأنني لن أعتمد على الأحلام لتقرر لي ما هو الطريق الصواب.
وتم الزواج بالفعل بعدها بأشهر قليلة فاعتبرت أن هذا الحلم كان حتما نوعا من الخيال وأن الله اختار لي زوج مسلم وملتزم كرسالة منه حتى أنسى أي شيء يتعلق بالمسيحية أو بالشك في الإسلام. وقررت أن أبدأ حياة جديدة مع زوجي على أساس طاعة الله والالتزام الإسلامي دون تشدد فلم يكن زوجي متشددا بل على العكس كان محافظا على الفرائض دون مبالغة. وبدأنا حياتنا بصلاة الجماعة التي قررنا الحفاظ عليها سويا قدر الإمكان ليبارك لنا الله في زيجتنا، وكنا أحيانا نجلس لنقرأ سويا في القرآن. ثم أنجبنا ولدا بعد عام، وكنت أحرص على إسماعه آيات القرآن منذ صغره. لكنني كنت أعلم جيدا أنني أقاوم شيئا ما زرع بداخلي قبل سنوات وأصبح الهروب منه مستحيلا.
وكنت كلما مررت بكنيسة أو رأيت صليب أو أيقونة مسيحية أشعر بحالة من السعادة الغريبة. والعجيب أن الحي الذي كان يعيش به زوجي قبل زواجنا يتميز بوجود غالبية مسيحية وعدد كبير من الكنائس، وكانت المرة الأولى التي أزور فيها هذا الحي بعد ارتباطنا فانبهرت بهذا الطابع المسيحي الطاغي. وعندما استيقظت في أول ليلة قضيتها هناك كان صوت قرع أجراس الكنائس هو الذي أيقظني للمرة الأولى. فاستيقظت في سعادة وتعجب من عمل الله العجيب في حياتي. وعندما بدأ إبني يعي الأشياء ويبدأ في طرح التساؤلات وجدته يوما يسألني عن ماهية هذا المبنى الذي تعلوه علامة الصليب. فأخبرته أن هذا دار عبادة لله مثله مثل المسجد وأنه يسمى كنيسة. وشاء الله أن نذهب في رحلة للمرة الأولى لأحد الأديرة برفقة مجموعة أغلبها من المسلمين. كنت شديدة الحماس والفرح، فتواجدي في أي مكان مسيحي كان يبعث بداخلي بهجة أعجز عن مداراتها، وكانت المرة الأولى التي يدخل فيها إبني الصغير لمكان مقدس حتى قبل أن يزور المسجد. وكنت ألح على زوجي من وقت لآخر بأن نقوم بزيارة لأحد الكنائس الأثرية معربة عن استمتاعي بزيارة مثل تلك الأماكن رغم أنني لم أكن أطلب منه أن نزور أي مسجد أثري أو أثر تاريخي. ولنشأته المنفتحة على المسيحيين لم يكن يعترض على ذلك لكنه بعد فترة بدأ يشعر بالضيق من تكرار هذه الرغبة وبدأ في الرفض فآثرت ألا ألح عليه خوفا من إثارة شكوكه.
وذات ليلة بينما كنا أنا وابني نائمان سويا في منزل والداي حلمت بأننا نائمان في نفس الوضع وأمامنا باب الغرفة مفتوح وفوجئت بابني ينادي علي بحماس شديد: “أمي أمي انظري. يسوع المسيح أتى إليك في منزلك” فنظرت فوجدت السيد المسيح واقفا بلباسه الأبيض أمام باب الغرفة، واستيقظت على الفور من النوم ونظرت بالفعل باتجاه الباب لكن لم يكن هناك سوى ظلام تام. إلا أنني شعرت بسعادة بالغة وكأنني لم أكن أحلم، خاصة وأن الحلم كان على نفس الوضع الذي كنا فيه. وشعرت وكأن السيد المسيح قد أتى لزيارتنا بالفعل لكنه كان واقفا على الباب ولم يدخل إلى الغرفة فلم أفهم السبب، لكنني بعدها بسنوات قرأت الآية التي يقول فيها السيد المسيح: “هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي” (رؤ 3: 20). ففهمت أن معنى هذا الحلم على الأغلب أن السيد المسيح كان ينتظر قبولي له ودعوتي إليه للدخول إلى حياتي لهذا ظل واقفا على الباب ولم يدخل لأنني حتى ذلك الوقت لم أكن قد سمحت له بذلك. وظللت لسنوات أدعو بشكل يومي أن يرشدني الله لطريقه الحق وألا أموت على حالة الحيرة هذه. وفكرت في أن نقوم أنا وزوجي برحلة حج أو عمرة إلى مكة. كنت أشعر أن هذه الرحلة ستكون حاسمة وأنني سأتمكن من معرفة الحقيقة هناك. فإما سأجد الله في مكة أو سأترك الإسلام نهائيا. وسعينا بالفعل أكثر من مرة للقيام بهذه الرحلة لكن الله لم يشأ لنا القيام بها فقد كان له تخطيط آخر.
فذات يوم فوجئنا بدعوة لزيارة روما في رحلة عمل، وكان المكان الأول الذي صممت على زيارته في يومنا الأول هناك هو الفاتيكان. وجدنا أنفسنا داخل أهم رمز ومعلم مسيحي تاريخي والوجهة الأولى لمسيحيي العالم للحج. فبدلا من مكة وجدنا أنفسنا نحج إلى الفاتيكان! أتذكر جيدا وقوفي داخل كنيسة القديس بطرس المهيبة بزخارفها وايقوناتها البديعة وحضورها المهيب وسط آلاف من الحجاج المسيحيين من كافة أنحاء العالم. ووقفت أسأل الله بداخلي لماذا يارب احضرتنا لهذا المكان نحن المسلمين الذين عجزنا عن زيارة مكة؟ ربما كنا وقتها المسلمين الوحيدين هناك. ولم نقض وقتا طويلا حيث التقطنا بعض الصور التذكارية وغادرنا سريعا. لكنني شعرت بأن الله هو الذي رتب لنا هذه الزيارة التي عمقت بداخلي الشعور بأن هناك خطة لله في حياتي لا أستطيع إيقافها أو تغييرها ولم أكن أعلم بالضبط في هذا الوقت إلى أين ستقودني تحديدا لكنني كنت على يقين من أن الله لن يضيعني أبدا.