لماذا بدون سفك دم لا تحصل مغفرة؟

منذ فجر التاريخ، والإنسان يسأل في خوفٍ وصمت: كيف أقترب من الله بعد أن ابتعدتُ عنه؟ كيف تُشفى النفس المذنبة؟ وكيف يُرفع الحمل الثقيل من على القلب؟
هذا السؤال لم يكن حكرًا على ديانة دون أخرى، بل هو صرخة الإنسان في كل العصور. في الإسلام، نجد الوعي العميق بعدل الله ورحمته، فالله هو الغفور الرحيم، وهو في الوقت نفسه العزيز الجبّار. وفي هذا الجمع بين الرحمة والعدل سرٌّ عظيم، إذ لا يمكن أن تُمحى الخطيئة دون أن يُعلن الله عدله.
وفي المسيحية أيضًا، لا يُقدَّم الله كديّانٍ غاضبٍ يحتاج إلى الدم، بل كإلهٍ محبٍّ عادلٍ في آنٍ واحد. فكما قال أحد الآباء: “الله لا يحتاج إلى دم، لكن الإنسان هو الذي يحتاج إلى حياة تُسكب فيه من جديد.”
فالدم في الكتاب المقدس يرمز إلى الحياة، كما كُتب: “نفس الجسد هي في الدم” (لاويين 17: 11). إذن حين نقرأ: “بدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عبرانيين 9: 22)، لا نفهمها كطلبٍ دمويٍّ أو رغبةٍ في موتٍ جسدي، بل كإعلانٍ عن ضرورة أن تُوهب حياة جديدة للإنسان الميت بالخطية. فالخطيئة ليست مجرد خطأ، بل انفصال عن مصدر الحياة، أي الله. وعندما ينفصل الإنسان عن الحياة، يكون العلاج الوحيد هو أن تُسكب فيه حياة أخرى — وهذه الحياة هي التي يُشير إليها الكتاب المقدس بـ “الدم”.
منذ السقوط، حاول الإنسان أن يصلح ما انكسر. آدم غطّى عريه بأوراق التين، ولكنها لم تَدُم، فقد لبّاه الله بلباسٍ من جلدٍ، رمزًا إلى أن التستر الحقيقي لا يكون بعمل الإنسان، بل بعطية من الله نفسه، عطية فيها “دمٌ” أي حياةٌ تُعطى عوضًا عن الموت.
ثم في تاريخ بني إسرائيل، قدّم الله نظام الذبائح — ليس لأن الله يُسرّ بالدماء، بل لأنه أراد أن يعلّمهم شيئًا أعمق: أن الغفران ليس عملاً بشريًا يُشترى، بل هو ثمرة محبةٍ إلهية تُعطى بثمن الحياة. يقول القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه تجسد الكلمة: “كان لابد أن يُفنى الفساد بالموت، ولكن بما أن الإنسان لم يكن قادرًا أن يقدّم نفسه ذبيحة طاهرة، جاء الكلمة الأزلي، وأخذ جسدنا، وقدّم نفسه بدلنا لكي يبيد الفساد بالموت.”

فالفداء هنا ليس عقوبة، بل علاج. ليس إرضاءً لغضب، بل شفاءً لكسرٍ عميق في طبيعة الإنسان.

في الفكر الإسلامي، نقرأ أن الله رحيم، وأنه يغفر لمن يشاء، وأن التوبة النصوح تمحو الذنوب. هذا إعلان عظيم عن رحمة الله، لكن الإسلام أيضًا يؤكد أن لكل ذنب أثرًا، وأن العدل الإلهي لا يُلغى. فحتى في الذبائح التي كانت تُقدَّم في بعض الشرائع القديمة، لم يكن الهدف منها إطعام الله، بل التعبير عن التوبة والخضوع له.
وتتلاقى المسيحية مع هذا المعنى في جوهره، لكنها تُضيف بُعدًا جديدًا: أن الله نفسه هو الذي أتى ليُتمّ ما عجز الإنسان عن إتمامه. فالدم الذي يسكبه المسيح ليس “ثمناً” يدفعه لله الآب، بل هو تجسيد للمحبة الإلهية التي تدخل عمق الجرح البشري لتُعيد إليه الحياة. كما قال أحد آباء الكنيسة الأول: “المسيح لم يُقدّم دمه ليُرضي الآب، بل ليُقدّسنا نحن ويُعيدنا إلى الشركة معه.”
حين نسمع كلمة “دم” نميل أن نفكر في الموت، لكن في فكر الآباء، الدم يعني الحياة المبذولة. فمنذ أن تجسد الكلمة، بدأ عمل الفداء — ليس فقط على الصليب، بل في كل لحظة من حياة المسيح، حين عاش طائعًا، وديعًا، محبًا، مقدِّمًا نفسه للآخرين. كل نفسٍ تنفّسه كان تقدمة حبٍّ من أجل الإنسان، وحين وصل إلى الصليب، كان هذا ذروة ما بدأه بالتجسد: بذل الحياة حتى النهاية.
إذن، “بدون سفك دم” لا تعني أن الله لا يغفر حتى يرى دمًا، بل أن الحياة لا تعود إلى الإنسان إلا إذا دُفِع ثمن الأنانية والموت بالحب والبذل الكامل. وفي المسيح، نرى هذا الحب متجسدًا حتى آخر نقطة دم.
يتساءل المسلم بحقٍّ: أليس الله قادرًا أن يغفر بدون دم؟ بلى، الله قادر على كل شيء، لكن قدرته لا تنفصل عن طبيعته، والله لا يفعل ما يُناقض ذاته. فهو العدل الكامل كما هو الرحمة الكاملة. والمغفرة ليست تجاوزًا عن الخطأ، بل إعادة النظام الإلهي المكسور إلى كماله. لذلك كان الفداء هو الطريقة التي أعلن بها الله عدله ورحمته في آنٍ واحد، كما قال الوحي على لسان بولس الرسول: “لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ” (رومية 3: 26).
الدم ليس شعار الموت، بل علامة الحياة الجديدة. والفداء ليس صفقة بين السماء والأرض، بل هو عودة الابن إلى حضن أبيه. والمسيح لم يُقدَّم كضحيةٍ لإلهٍ غاضب، بل كطبيبٍ نزل إلى المريض ليمنحه شفاء الحياة.

هكذا قال القديس إيريناوس:

“الإنسان تعلّم من المسيح كيف يحمل الله في قلبه، والله أظهر في المسيح كيف يحمل الإنسان في قلبه.”
ففي المسيح، التقت العدالة بالرحمة، والموت بالحياة، والإنسان بالله، لتُعلن الحقيقة الأبدية: فطريق المغفرة ليس طريق الخوف، بل طريق الحبّ المصلوب، الذي سفك دمه لا ليميت، بل ليُحيي.