هل الوحي في الكتاب المقدس لفظي أم معنوي؟ ولماذا؟
البعض يتساءل :
هل من الممكن أن يكون الوحي لفظيًا، فنحفظه ونفهمه ونعيشه في حياتنا في الوقت نفسه؟
من الطبيعي أن نميل لفكرة أن كلام الله يجب أن يُحفظ كما هو، لأننا تربينا على الحفظ في المدارس كطريق للنجاح، حتى لو لم نفهم المعنى. لكن مشكلة الحفظ دون فهم أننا نكرر الكلمات فقط دون أن تؤثر فينا أو تغيّرنا من الداخل.
في المقابل، لو تعاملنا مع الوحي على أنه معنى ورسالة، فهل يفتح هذا الباب لكل إنسان أن يفسر بطريقته؟
الجواب لا، لأن المعنى في الكتاب المقدس ثابت ومتكرر في مواضع كثيرة، فلا يترك مجالًا للالتباس أو التفسير الشخصي.
فعلى سبيل المثال، الوصية الأساسية وهي المحبة لم تُذكر مرة واحدة، بل أكد عليها المسيح مرارًا حين قال:
«تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ» (لوقا 10:27).
وشرح معنى الحب بأنه عطاء لا امتلاك، وخدمة لا سيطرة، فالحب في فكر الله ليس مشاعر فقط، بل عمل إرادي يقود إلى البذل والعطاء.
من هنا نفهم أن الوحي بالمعنى لا يعني الفوضى في التفسير، بل يدعونا لأن نعيش الرسالة بدلًا من أن نحفظها فقط، فالفهم يقود إلى حياة حقيقية، أما الحفظ الأعمى فيصنع إنسانًا متدينًا بالمظاهر لا بالقلب.
القانون لا يصنع علاقة
يظن البعض أن غياب القوانين الصارمة يعني غياب الالتزام، لكن الله منذ البداية لم يتعامل مع الإنسان عبر القوانين بل عبر العلاقة.
فعندما دعا الله إبراهيم، لم يعطه شرائع أو أوامر كثيرة، بل يقول الكتاب:
«فآمن إبراهيم بالله فحُسب له برًا ودُعي خليل الله» (يعقوب 2:23).
أي أن العلاقة بين الله وإبراهيم كانت علاقة صداقة وثقة، لا قائمة على أوامر ونواهي.
وكذلك عن أخنوخ يقول الكتاب: «وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (تكوين 5:24).
أي أنه عاش في شركة حب مع الله حتى صار قريبًا منه جدًا.
القوانين والشرائع ظهرت لاحقًا في زمن موسى عندما كوّن الله شعبًا يحتاج إلى نظام ودستور يعيش به، لأن الشعب لم يكن مستعدًا بعد لعلاقة ناضجة تقوم على المحبة فقط. لذلك أُعطي الناموس ليُظهر للإنسان حاجته إلى المخلص.
لكن عندما جاء المسيح، لم يلغِ الناموس من حيث القيم الأخلاقية، بل أكمله بمعناه الحقيقي. قال بولس الرسول:
«المحبة لا تصنع شرًا للقريب، فالمحبة هي تكميل الناموس» (رومية 13:10).
أي أن جوهر كل وصية هو المحبة، لأن من يحب لن يقتل أو يسرق أو يظلم.
الله لا يفرض قوانين متغيرة كالدساتير البشرية
القوانين التي تنظم المجتمعات تتغير حسب الزمان والمكان، لأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية تتغير، أما الله فتعاملُه مع الإنسان ثابت لأنه يقوم على مبدأ واحد هو المحبة.
المسيح لم يأتِ ليضع شريعة جديدة تنظم حياة الناس، بل ليبني ملكوتًا روحيًا يضم المؤمنين من كل أمة ولسان، كما يقول سفر الرؤيا:
«واشترَيتَنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة» (رؤيا 5:9).
فهو لا يقيم دولة لها دستور أرضي، بل يقيم كنيسة عالمية أساسها الحب الإلهي الذي يوحد الناس رغم اختلافهم.
الوحي بالمعنى يؤكد المصداقية لا العكس
قد يرى البعض أن وجود اختلافات بسيطة بين الأناجيل الأربعة دليل على عدم دقة الوحي، لكن الحقيقة أن هذه الاختلافات هي دليل صدق وليست ضعفًا.
فلو كان الوحي حرفيًا وإملائيًا، لكانت الأناجيل نسخة واحدة متطابقة في كل كلمة، وهذا يجعلها كأنها تُملى على كتّاب مختلفين دون أن يشاركوا بشخصياتهم وتجاربهم.
لكن الله سمح أن يُكتب الوحي بأساليب متنوعة تحمل شخصية الكاتب وثقافته، بينما يظل المعنى الإلهي واحدًا.
على سبيل المثال، في رواية دخول المسيح إلى أورشليم، يذكر أحد الأناجيل أنه دخل راكبًا على جحش وابن أتان، بينما يذكر آخر أنه دخل راكبًا على جحش فقط.
لكن الرسالة واحدة: المسيح دخل أورشليم كملك متواضع، لا كقائد عسكري.
تحقق بذلك قول النبي زكريا:
«هوذا ملكك يأتي إليك وديعًا وراكبًا على حمار وجحش ابن أتان» (زكريا 9:9).
المهم هو المعنى، لا تفاصيل اللفظ، لأن الوحي ليس في الكلمات بل في الرسالة التي تحملها.
الحق يحرر من الشكلية
عندما يتمسك الإنسان بالحرف دون الفهم، يتحول الدين إلى مظهر خارجي بلا حياة.
كان المسيح يوبخ الكتبة والفريسيين لأنهم نفذوا الشريعة حرفيًا لكن قلوبهم امتلأت بالكبرياء والكراهية، فقال لهم:
«تعشرون النعنع والشبث والكمون وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان» (متى 23:23).
أي أنهم حفظوا اللفظ ونسوا المعنى.
لكن الله لا يريد طقوسًا شكلية بل قلبًا صادقًا، لأنه حين يتغير القلب، تتغير الحياة كلها.
فالوحي في الكتاب المقدس هو رسالة حياة لا مجموعة ألفاظ جامدة.
هو إعلان من الله ليقود الإنسان إلى علاقة حب حقيقية معه ومع الآخرين.
الحرف يمكن أن يُحفظ، لكنه لا يغيّر القلب، أما المعنى فيدخل إلى الداخل فيجعل الإنسان حرًا ومسؤولًا ومحبًا.