لماذا كانت هناك ذبائح في العهد القديم؟
“محاولات البشر لإصلاح الخطأ”
في حياة الإنسان، يبقى السؤال عن الذنب والخطأ من أقدم الأسئلة وأكثرها إلحاحًا. فما إن أخطأ الإنسان الأول، حتى بدأ في محاولة إصلاح ما انكسر بينه وبين الله. المسلم والمسيحي واليهودي جميعهم يتفقون أن هناك لحظة في التاريخ دخل فيها الشر إلى قلب الإنسان، وأن هذه اللحظة غيّرت مسار العلاقة بين الإنسان وخالقه. لكن تبقى طريقة العودة إلى الله هي ما يثير التساؤل.
في الإيمان المسيحي، لا تُفهم الذبائح كوسيلة لإرضاء إله غاضب، بل كجزء من قصة حب طويلة، الله فيها هو من بدأ استرداد الإنسان، لا العكس.
1. البداية: جرح العلاقة
في سفر التكوين، بعد أن أخطأ آدم، لم يهرب الله منه، بل بحث عنه قائلاً: «آدم، أين أنت؟» (تكوين 3 :9). لم يكن السؤال توبيخًا، بل دعوة إلى الرجوع. لكن آدم شعر بالعار، فحاول أن يغطي نفسه بأوراق التين — وهي أول محاولة بشرية لإصلاح الخطأ. غير أن الله نفسه صنع له أقمصة من جلد وألبسه إياها (تكوين 3 :21)، وكانت تلك أول إشارة إلى الذبائح، حيث أُريق دم لتغطية خطأ الإنسان.
2. الذبائح ليست إرضاءً بل إعلان حب
في الفكر المسيحي بحسب تعليم الآباء، الذبائح في العهد القديم ليست محاولة لإرضاء الله الغاضب كما يظن البعض، بل هي رموز، علّم بها الله الإنسان أن الخطية مميتة، وأن الحياة لا تُستعاد إلا بالعلاقة مع مصدرالحياة نفسه. القديس أثناسيوس الرسولي مثلا يقول: “لم يكن الله بحاجة إلى موت الذبائح، بل الإنسان هو من كان يحتاج أن يرى بعينيه خطورة الخطية وضرورة التوبة.”
3. محاولات الإنسان ومبادرة الله
في كل ديانات الشرق القديم كانت هناك ذبائح — بشرية أو حيوانية — يقدمها الناس طلبًا للغفران أو الحماية. حتى في التراث الإسلامي، يُذكر أن أبناء آدم قدموا قربانًا إلى الله، “فُتُقُبِّلَ من أحدهما ولم يُتَقَبَّل من الآخر” (المائدة 27).
أما في الإيمان المسيحي، فالله هو الذي بدأ المصالحة. لم ينتظر أن يقدّم الإنسان ذبيحة، بل أعلن أن “الطاعة خير من الذبيحة” (1 صموئيل 15 :22). هذا يعني أن الذبائح في العهد القديم كانت مرحلة تمهيدية، تشرح للإنسان ضعف محاولاته، وتُعدّ قلبه ليفهم الذبيحة الكاملة التي ليست من صنعه، بل مبادرة من الله نفسه.
4. المسيح: النهاية الطبيعية لكل الذبائح
حين جاء المسيح، لم يأتِ ليقدّم ذبيحة جديدة ضمن النظام القديم، بل ليكشف المعنى الحقيقي للذبائح: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يوحنا 1 :29). لم يكن الصليب في نظر الكنيسة الأولى عملاً انتقاميًا، بل فعل حب إلهي، فيه قدّم الله نفسه ليشفي الإنسان من داخله. فالدم في الكتاب المقدس لا يرمز إلى الموت، بل إلى الحياة الممنوحة: “لأن نفس الجسد هي في الدم” (لاويين 17 :11).
5. بين المفهوم الإسلامي والمسيحي
في القرآن، تُذكر الذبائح ضمن مناسك القربان، مع تأكيد على أن الله لا يحتاج الدم أو اللحم، بل “التقوى منكم” (الحج 37). وهذا المفهوم قريب من الفكر النبوي في العهد القديم. لكن الفرق أن في الإيمان المسيحي، الله هو المبادر بالمصالحة، إذ “ليس أننا نحن أحببنا الله، بل هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا.” (1 يوحنا 4 :10).
الخلاصة: من المذبح إلى القلب
إذ نتأمل في تاريخ الذبائح، نرى أن الإنسان حاول كثيرًا إصلاح الخطأ بيده، لكن كل محاولة كانت ناقصة. في النهاية، الله لم يطلب من الإنسان دمًا، بل قلبًا جديدًا. كما قال النبي حزقيال: “وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم.” (حزقيال 36 :26).
وهذا هو جوهر الفداء: أن الله لم يأتِ ليعاقب، بل ليعالج؛ لم يأتِ ليهدم، بل ليبني من جديد؛ لم يطلب الذبيحة، بل صار هو الذبيحة — حبًا لا عقابًا، حياةً لا موتًا.