لماذا فشلت محاولات الإنسان في استرداد العلاقة مع الله بعد السقوط؟

منذ لحظة سقوط الإنسان في الخطية، بدأ قلبه يصرخ باحثًا عن طريقٍ للعودة إلى الله. شعر بالاغتراب عن مصدر حياته، وبالظلمة تغمر أعماقه، فحاول أن يصنع لنفسه “ثيابًا من ورق التين” ليستر عُريه الروحي. لكن منذ البداية، كانت هذه المحاولات البشرية مجرد مسكنات مؤقتة، لا تلمس جذر المشكلة: انفصال الإنسان عن الله القدوس.

أولاً: الذبائح – صدى لصرخة الضمير

منذ أيام هابيل، بدأ الإنسان يقدّم الذبائح، مدركًا أن الخطية تستوجب الموت، وأن النفس تُفدى بدم. لكن هذه الذبائح، رغم طهارتها الرمزية، لم تكن قادرة أن تُطهّر القلب أو تُغيّر الطبيعة الساقطة. كما يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: “ِأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا” (عبرانيين 10: 4). كانت الذبيحة تعلن حاجة الإنسان إلى مَن يُكمّلها، إلى حملٍ بلا عيبٍ يرفع خطية العالم، وهو ما تحقّق في المسيح يسوع، الذي قدّم نفسه ذبيحة حقيقية لا رمزية.

ثانيًا: الطقوس والوصايا – محاولات الوصول من أسفل

سعى الإنسان عبر التاريخ إلى إرضاء الله بالطقوس والعبادات الكثيرة. ظنّ أن الممارسات الخارجية قادرة أن تُطفئ غضب السماء. لكن المشكلة لم تكن في السماء بل في القلب. فالله لا يُسرّ بالمظاهر، بل يطلب الحق في الداخل. قال النبي إشعياء على لسان الرب: “هذَا الشَّعْبُ يَقْتَرِبُ إِلَيَّ بِفَمِهِ وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، أَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا” (إشعياء 29: 13).
فالطقوس التي فقدت روحها لم تعد وسيلة للاتحاد بالله، بل أصبحت عبئًا روحيًا. فبدل أن تقود الإنسان إلى التوبة، صارت غطاءً يخفي فراغ القلب.

ثالثًا: الأعمال الصالحة – السلم المكسور إلى السماء

كثيرون حاولوا أن يستعيدوا رضا الله بأعمالٍ صالحة: عطايا، صلوات، صيامات، لكنهم نسوا أن المشكلة ليست في “كمّ” الخير الذي نصنعه، بل في “منبع” الخير داخلنا. فالينبوع ملوث منذ السقوط، ولا يمكن للماء النقي أن يخرج من بئرٍ عفنة.
كتب الرسول بولس: “إِذِ الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ” (رومية 3: 12).
لذلك فالأعمال الصالحة ليست جسرًا نحو الخلاص، بل ثمر الحياة الجديدة التي يمنحها الله مجانًا في المسيح. لذلك يقول آباء الكنيسة: “الإيمان العامل بالمحبة هو ثمرة النعمة، لا شرطها.”

رابعًا: الدين كشكل بلا حياة

تطوّر التدين مع الأجيال، فصار الإنسان يصنع أنظمة معقدة من النواميس، والمحرّمات، والطقوس، ظنًّا أن الله يُرضى بالقوانين. لكن تلك الأنظمة – كما قال القديس أثناسيوس – “عجزت أن ترد الإنسان إلى الصورة التي خُلق عليها.”
فالإصلاح الحقيقي لا يأتي من الخارج إلى الداخل، بل من الداخل إلى الخارج. لهذا، لم يرسل الله أنبياء فقط، بل أرسل ابنه الوحيد ليجعل الإنسان خليقة جديدة من الداخل.

خامسًا: المسيح… الطريق الوحيد إلى الاسترداد

في النهاية، لم تفشل الذبائح لأن الله رفضها، بل لأنها كانت ناقصة، تشير إلى ما سيأتي. في المسيح اجتمعت العدالة والرحمة، القداسة والمحبة. لم يأتِ ليقدّم طقسًا آخر، بل ليُعيد العلاقة المقطوعة.
قال الرب يسوع: “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي” (يوحنا 14: 6).
هكذا لم يكن الفداء “ردّ فعلٍ إلهي” على فشل الإنسان، بل هو قلب خطة الله منذ الأزل. فالله لم ينتظر الإنسان ليصل إليه، بل نزل هو بنفسه، واتحد بطبيعتنا ليعيدنا إليه. ومن ذلك نفهم أن الله لا يرضى بالمظاهر، بل بطهارة القلب، والذبائح والطقوس كانت مجرد رموزًا للمسيح، وليست بديلاً عنه. وأخيرا لا خلاص بالأعمال، بل بنعمة الله في المسيح يسوع؛ فالعلاقة مع الله تُبنى على الحب المتبادل، لا على الخوف أو الشريعة الجافة، والفداء ليس صفقة، بل حبٌّ إلهي موجه نحو الإنسان الضائع.
وفي ضوء هذا كله، يمكن التأكيد على أن فشل الإنسان في إصلاح نفسه أمر طبيعي؛ لأن العلاج لا يأتي من الإنسان إلى الله، بل من الله إلى الإنسان. وما عجزت عنه الذبائح والوصايا والطقوس، أتمّه الله في شخص المسيح، الذي فتح لنا باب الرجوع إلى الآب، لا بدمٍ غريب، بل بدم المحبة الأبدية.