الإيمان بين العقل والمشاعر

الإيمان ليس هروبًا من العقل

كثيرون يظنون أن الإيمان مجرد حالة شعورية أو انفعال وجداني داخلي، لكن هذا اختزال ظالم لحقيقته.
فالدماغ البشري منظومة متكاملة، تجمع بين مراكز التفكير المنطقي والإدراك الحسي والذاكرة، وكذلك المشاعر (الهيبوثالاموس).

لذلك، لا يمكن أن نفصل الإيمان عن العقل أو نحصره في العاطفة فقط، الإيمان، في جوهره، ليس هروبًا من العقل بل دعوة إليه.
فكما ندرس قوانين الفيزياء والبيولوجيا لفهم الحياة، من الطبيعي – بل من الضروري – أن نفهم علاقتنا بالله ومصيرنا الأبدي. هذه ليست رفاهية فكرية، بل احتياج وجودي عميق.

مكان المشاعر في الإيمان

هل الإيمان يخلو من المشاعر؟ قطعًا لا. المشاعر جزء أصيل من تكوين الإنسان.

النفس الإنسانية تتكون من ثلاثة عناصر رئيسية:

1. العقل (التفكير والفهم).
2. العاطفة (المشاعر وردود الأفعال).
3. الإرادة (القدرة على اتخاذ قرار بناءً على العقل والعاطفة معًا).

هناك أشخاص يغلب عليهم الجانب العاطفي، وآخرون العقلاني، وفئة ثالثة تمزج بين الاثنين. لكن الحقيقة أن العاطفة والعقل كلاهما جزء أساسي مني كإنسان.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نُعرّف الإيمان باعتباره مجرد “شعور”، لأن الكتاب المقدس يربط الإيمان بالثقة واليقين، لا بالانفعال اللحظي.

يقول الرسول بولس:
“وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى” (عبرانيين 11: 1).

هذه الآية تعني أن الإيمان يتجه دائمًا إلى المستقبل. نحن نثق فيما نرجوه حتى لو لم يتحقق بعد، ونوقن بوجود حقائق غير منظورة الآن لكنها حقيقية. مثل شخص يزرع بذرة في الأرض؛ لا يرى النبات بعد، لكنه متيقن أنه سيظهر.

ويقول الرسول بولس أيضًا:
“لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَيَانِ” (2 كورنثوس 5: 7).

هنا يوضح أن حياتنا اليومية تُبنى على الثقة بالله، لا على ما نراه فقط. فالعيان محدود، أما الإيمان فيفتح لنا أفقًا أوسع من مجرد الحواس.

الإيمان أكثر من مجرد تصديق عقلي

الإيمان ليس مجرد اعتقاد ذهني بوجود الله. فالتصديق العقلي لا يكفي إن لم يتحول إلى ثقة واعتماد.

لتوضيح ذلك:
قاعدة أرخميدس عن الطفو تقول إن الجسم الأقل كثافة من الماء سيطفو. لكن أن تعرف المعلومة شيء، وأن تُلقي بنفسك في الماء وتختبرها شيء آخر.
بنفس الطريقة، الإيمان الحقيقي يعني أنني أضع حياتي في يد الله وأثق به، لا أن أكتفي بالاعتراف العقلي بوجوده.

الكتاب المقدس يربط الإيمان ارتباطًا وثيقًا بالفهم والإدراك.

أهمية الفهم في الإيمان

في مزمور 119 نقرأ:
“طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ” (مزمور 119: 27).

هنا داود يطلب من الله أن يمنحه فهمًا، لأن الفهم يقوده للتأمل والتسبيح. المعرفة السطحية لا تكفي، لكن الفهم العميق يولّد علاقة حية.

“فَهِّمْنِي فَأُلاَحِظَ شَرِيعَتَكَ وَأَحْفَظَهَا بِكُلِّ قَلْبِي” (مزمور 119: 34).

الوصية لا تُحفظ لمجرد أنها أمر، بل عندما نفهم معناها وقصد الله منها، نصير قادرين أن نعيشها بصدق.

وفي العهد الجديد، يكتب بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس:
“افْهَمْ مَا أَقُولُ. فَلْيُعْطِكَ الرَّبُّ فَهْماً فِي كُلِّ شَيْءٍ” (2 تيموثاوس 2: 7).

لاحظ أن بولس لا يطلب طاعة عمياء، بل يدعو تيموثاوس إلى الفهم. هذا يعني أن الإيمان المسيحي يقدّر العقل ويدعوه للمشاركة.

الرب يسوع نفسه استخدم الأمثال زى ( مثل الزارع – متى 13) ليقود سامعيه إلى الفهم. فالأمثال تبدو غامضة للسامعين، لكنها تدعو للبحث والتأمل. والمسيح شرحها لتلاميذه لأنه يريدهم أن يفهموا أسرار ملكوت الله.

الوصية والإيمان

الوصية في جوهرها ليست مجرد تعليمات أخلاقية، بل إعلان عن الله وعن علاقة الإنسان به.
أعظم الوصايا تقول:
“تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ” (متى 22: 37).

وهذا يعني أن الإيمان يشمل القلب (المشاعر)، والنفس (الحياة الداخلية)، والفكر (العقل والإدراك). أي أن العلاقة مع الله تتطلب اشتراك الكيان كله: عاطفة، عقل، وإرادة.