كيف كُتب الكتاب المقدس وتُرجم؟ ولماذا تعددت الأناجيل؟
كثيرون يتساءلون: هل الكتاب المقدس الذي بين أيدينا اليوم هو نفسه الذي كُتب قديمًا؟ ومتى تُرجم؟ ولماذا يوجد أربعة أناجيل بدلًا من واحد؟
أسئلة طبيعية ومشروعة، والرد عليها يحتاج نظرة تاريخية وروحية معًا.
ترجمة العهد القديم إلى اليونانية (السبعينية)
بعد عودة اليهود من السبي البابلي، انتشرت اللغة اليونانية في العالم بفضل فتوحات الإسكندر الأكبر، وأصبحت هي اللغة الرسمية للثقافة والتعليم، حتى إن كثيرًا من اليهود أنفسهم لم يعودوا يجيدون العبرية.
ولذلك، كان من الضروري ترجمة كتبهم المقدسة إلى اليونانية ليقرأها الجميع.
في القرن الثالث قبل الميلاد (حوالي 250 ق.م)، طلب الملك بطليموس فيلادلفوس – حاكم الإسكندرية – من علماء اليهود أن يترجموا الكتاب المقدس إلى اليونانية ليضمّه إلى مكتبة الإسكندرية العظيمة.
فأُرسل نحو سبعين شيخًا من علماء اليهود من أورشليم إلى الإسكندرية، وقاموا بالترجمة فيما يُعرف بـ “الترجمة السبعينية” (نسبة إلى عددهم).
ويُقال إن كل واحد منهم تُرِك يترجم بمفرده، ثم عند المقارنة وُجدت الترجمات متطابقة، فاعتُبر ذلك علامة على صدق الوحي ودقة العمل.
الترجمة السبعينية كانت أول ترجمة كاملة للعهد القديم، وهي الترجمة التي استخدمها السيد المسيح نفسه وتلاميذه في اقتباساتهم، بدليل أن معظم الآيات التي اقتبسوها في العهد الجديد جاءت بالنص السبعيني، لا العبري.
ومن هنا صارت السبعينية مرجعًا أساسيًا للكنيسة الأولى، وما زالت حتى اليوم ذات قيمة تاريخية وروحية كبيرة.
العهد الجديد: أربعة أناجيل لا إنجيل واحد
عندما جاء المسيح، لم يكتب هو بنفسه كتابًا، بل عاش وعلّم وصنع المعجزات أمام الناس. وبعد صعوده، بدأ الرسل والتلاميذ يكرزون بما رأوه وسمعوه.
ثم دُوِّنت هذه الأخبار في أربعة أناجيل لتقدّم لنا صورة متكاملة عن شخص المسيح وحياته وتعاليمه.
قد يتساءل البعض: لماذا لم يُكتفَ بإنجيل واحد؟
الإجابة أن حياة المسيح كانت أغنى من أن تختصر في رواية واحدة، وكل بشير من الأربعة كتب من زاوية مختلفة وبحسب الفئة التي يخاطبها، ليُقدّم رؤية شاملة لا متناقضة، بل متكاملة.
ـ متى كتب لليهود، فأظهر أن يسوع هو المسيّا المنتظَر، الملك الذي تحقق فيه النبوات.
ـ مرقس كتب للرومان، وركّز على المسيح الخادم صاحب القوة والفعل، الذي جاء ليخدم ويُضحي.
ـ لوقا الطبيب كتب لليونانيين، واهتم بالتاريخ والتفاصيل الدقيقة والمعجزات، ليُظهر إنسانية المسيح وحنانه.
ـ يوحنا كتب بعدهم للعالم كله، ليُعلن ألوهية المسيح وكلمته الأزلية، مركزًا على الجانب الروحي العميق.
مثلما تُصوَّر المشاهد بعدة كاميرات من زوايا مختلفة، هكذا الأناجيل الأربعة تعطينا رؤية بانورامية متكاملة لشخص واحد هو المسيح.
تنوع الأسلوب ووحدة الروح
الله لم يُلغِ شخصية الكاتب، بل استخدم ثقافته وخبرته وأسلوبه ليكتب بإلهام الروح القدس.
فالكتاب يقول:
«تكلّم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بطرس 1:21).
وهذا ما يفسر تنوع الأساليب في الكتاب المقدس:
فـ”عاموس” راعي الغنم كتب بلغة بسيطة قريبة من الناس.
و”إشعياء” كتب بأسلوب أدبي رفيع.
و”لوقا” الطبيب كتب بدقة علمية واضحة.
أما بولس الرسول فكتب بلغة بسيطة لكن بأفكار لاهوتية عميقة جدًا.
فلو كان الوحي مجرد إملاء حرفي من الله، لكانت الأسفار كلها متشابهة في الأسلوب والمفردات، لكن التنوع اللغوي مع وحدة المعنى يبرهن أن الروح القدس هو المصدر الواحد الذي ألهم الجميع، دون أن يلغِي شخصياتهم.
الوحي بالمعنى لا بالحرف
الكتاب المقدس هو وحي بالمعنى والروح لا بالإملاء الحرفي.
الله كتب بنفسه الوصايا العشر على الألواح الحجرية في عهد موسى، لكن باقي الأسفار ألهم بها الأنبياء والرسل لينقلوا الرسالة الإلهية بأسلوبهم الإنساني.
ولهذا للوحي بالمعنى قيمتان أساسيتان:
1. يتيح ترجمة الكتاب المقدس لكل اللغات.
لو كان الوحي حرفيًا بلغة واحدة، لاضطر الناس أن يتعلموا العبرية أو اليونانية ليفهموا كلام الله، لكن لأن الوحي بالمعنى، يمكن ترجمة الرسالة لتصل إلى كل شعب بلغته وثقافته.
2. يركّز على الفهم لا الحفظ.
قال المسيح: «الكلام الذي أكلّمكم به هو روح وحياة» (يوحنا 6:63).
أي إن الهدف ليس ترديد الألفاظ، بل فهم المعنى والعيش به. فالقيمة ليست في الحرف بل في الرسالة التي تغيّر القلب والعقل.
هل اختلاف اللغات يربك الفهم؟
البعض يظن أن تعدد الترجمات يسبب اختلافًا في المعنى، لكن الحقيقة أن النصوص الأصلية محفوظة بالعبرية والآرامية واليونانية، والمقارنة بين النسخ تؤكد تطابق المعاني.
كما أن الترجمة لا تُلغِي الأصل، بل تجعله مفهومًا للجميع.
فالله لم يرسل رسالة لشعب واحد، بل يريد أن يخاطب كل إنسان بلغته، كما حدث يوم حلول الروح القدس حين تكلم الرسل بلغات مختلفة ليُسمِعوا الناس جميعًا كلمة الحياة (أعمال الرسل 2).
فالكتاب المقدس هو كلمة الله الحية، تُرجمَت منذ قرون لتصل إلى كل الشعوب.
ترجمته الأولى إلى اليونانية لم تُضع المعنى، بل جعلت الرسالة أكثر انتشارًا، ثم تتابعت الترجمات حتى صارت كلمة الله متاحة للعالم كله.
وتعدد الأناجيل ليس دليلًا على الاختلاف، بل على الغِنى والتكامل في تقديم شخص واحد من زوايا متعددة.