الفصل الثالث
قطع الشك باليقين

بعد رحلتنا إلى روما بعام واحد، وجدنا أنفسنا بترتيب إلهي آخر في بلد أوروبي لم نتوقع يوما أن نقوم بزيارته وهناك التقينا بأحد أصدقاء زوجي الذي يعيش هناك منذ سنوات طويلة وتعرفت على زوجته الأجنبية التي أخبرتني بأنها مسيحية متدينة تحرص على الذهاب إلى الكنيسة هي وابنتها رغم أن المجتمع هناك بعيد تماما عن كل ما يتعلق بالدين وأن الغالبية من اللاأدريين الذين لا يعتنقون دينا معينا ولا يعرفون ما إذا كان هناك إلها لهذا الكون أم لا بل لا يهتمون كثيرا بالأمر. شعرت براحة نفسية تجاهها وانطلقنا في تبادل الأحاديث حتى أخبرتها بأنني قرأت الإنجيل وأحببت الكثير من تعاليمه وتعلقت كثيرا بالسيد المسيح لكن هناك ما لم أستطع فهمه أو تقبله في العقيدة المسيحية فإذا كان السيد المسيح هو ابن الله بالفعل -مع عدم قدرتي على تقبل مثل هذه النظرية حتى ذلك الوقت- فلماذا يحضره الله إلى الأرض ويجعله يصلب ويتعذب ويموت فقط ليخلص البشر الذين سيؤمنون به من عذاب جهنم؟ فإذا كان الله يحب البشر إلى هذا الحد وهو وحده بيده أن يغفر لهم أو يعذبهم فليغفر لهم إذا ببساطة ودون حاجة لمخلص يموت صلبا ويتعذب من أجلهم! كانت هذه هي مشكلتي الكبرى مع المسيحية حيث لم أستطع حتى ذلك الوقت فهم ضرورة الفداء. فالإسلام يقول بأن من يؤمن ويعمل صالحا وتغلب حسناته سيئاته سيغفر له الله ويدخله الجنة وهو أمر منطقي وبسيط وقابل للاستيعاب على عكس عقيدة الفداء والصلب. انتظرت منها أن تشرح لي لكنها فاجئتني بالقول: “اقرأي العهد القديم واطلبي من الله أن يرشدك للحق”. أخبرتها أنني بالفعل أدعو الله يوميا أن يرشدني لطريقه وبأنني قرأت العهد الجديد كاملا منذ سنوات وكنت أحرص على قراءة خطبة الجبل من وقت لآخر لإعجابي الشديد بها لكنني ومنذ أن بدأت قبل سنوات في قراءة سفر التكوين ثم تحولت لقراءة العهد الجديد لم أعد مجددا لقراءة العهد القديم. وأخبرتها بأنني سأفعل ذلك بمجرد عودتي إلى بلدي رغم أنني لم أفهم وقتها ما الذي يمكن أن أجده في العهد القديم ليجعلني أتقبل فكرة الفداء والصلب. أليست هذه العقيدة مسيحية وغير موجودة عند اليهود؟ وبعد عودتي بوقت قصير انتهيت من صلاتي ذات يوم وجلست أتحدث إلى الله. أخبرته بأنني لا أريد أن أكمل حياتي على هذا النحو وأنني أريد معرفة طريقه الحق والاقتراب منه أكثر والعيش له وإرضاءه حتى ألقاه في اليوم الأخير وهو راضٍ عني. وأنني هذه المرة سأبحث بجد ولن أترك هذا الأمر حتى أصل ليقين وطلبت منه أن يساعدني ويرشدني لأصل إليه لأنه هو وحده من يعلم الحق وقادر على أن يرشدني إليه وألا يدع للشيطان سبيلا لخداعي وأن يرشد أهلي وأسرتي معي للحق. وعاهدته على أن أتبع طريقه وأثبت عليه حتى وإن وجدته في المسيحية فسأعلن ذلك مهما لاقيت في سبيل هذا الإعلان. حتى وإن تخلى عني الجميع أو حرمت من إبني أو تعرضت للاعتقال أو القتل فهدفي هو الآخرة الباقية وليس الدنيا الفانية. وقررت أن أتبع نصيحة هذه المرأة فأخرجت الكتاب المقدس ووضعته بجوار سريري وبدأت في قراءته يوميا، فلاحظ زوجي ذلك وكان يعلم من قبل أن لدي الكتاب المقدس لكنه تعجب من حرصي على القراءة فيه يوميا ووضعه بجوار سريري بهذا الشكل. فأخبرته بأنني لم أكن قد قرأت بعد العهد القديم وأرغب في قراءته. لم أخبره بالطبع بما دار بيني وبينها أو بشكوكي وتساؤلاتي على مدار السنوات الماضية فقد كنت أنتظر أن أصل أو لا للإجابة عن الكثير من تساؤلاتي حتى أتمكن من فتح الموضوع معه بشكل واضح وصريح وأكون قد وصلت لقرار أو صورة واضحة. وكنت أعلم بالطبع أن هذا الموضوع الشائك سيكون مفصليا في علاقتنا وتخيلت سيناريوهات عديدة لما قد يحدث بعد معرفته بالموضوع لكنني كنت قد عاهدت الله على أنني مستعدة لمواجهة أي شيء في سبيل إيجاد الحق، كما كنت لا أزل على أمل بأن أصل إلى أن الإسلام هو الحق وبأن أجد إجابات للتساؤلات التي أرقتني لسنوات وتنتهي رحلة الشك المرهقة نهاية سعيدة وأعود لسلامي الداخلي ولعباداتي الإسلامية وربما نذهب للحج أنا وزوجي احتفالا بانتهاء هذه المرحلة الصعبة. كانت سيناريوهات متعددة تدور داخل رأسي في تلك الأيام وأصبح إيجاد الطريق هو شغلي الشاغل. وذات يوم وبينما كنت أتناقش أنا وزوجي حول داعش والإرهاب أخبرته بكل صراحة بأن المشكلة تكمن في أنهم يعرفون الإسلام جيدا ويستندون على أدلة قوية من القرآن والسنة وبأنني لا أستطيع أن أفهم كيف يدعو الله لقتال غير المؤمنين وسبي النساء غير المسلمات؟! ووجدتني أقول له أن داعش هي ضحية لهذا الفكر وأن عامة المسلمين هم من لا يعرفون صحيح الدين وليست داعش! وسألته: “ماذا لو كنا على خطأ وماذا لو لم يكن الإسلام هو الدين الحق وأننا قد نكون في طريقنا إلى جهنم بسبب عدم بحثنا في باقي الأديان. فلماذا لا نبحث ونسأل الله أن يرشدنا للحق؟” جاء رد فعله بصراحة غير متوقعا بالنسبة لي فلم أجد الثورة التي كنت أنتظرها بل وجدت استعداده لمشاركتي رحلة البحث لكنه طلب مني أن نبدأ أولًا من الإسلام ونبحث في النقاط التي لا أتمكن من فهمها أو تشكل إشكالية كبيرة بالنسبة لي على أن نذهب لأحد رجال الدين لمناقشته فيها والحصول على إجابات على تلك التساؤلات فوافقته لكنني لم أجد مانعا من استكمال قراءة العهد القديم في نفس الوقت الذي كنت أبحث فيه داخل القرآن والأحاديث النبوية. وبدأنا بالفعل البحث في الجوانب الشائكة في الإسلام وأهمها الغزوات والسبي والكثير من الإشكاليات من أبرزها الناسخ والمنسوخ ونقاط أخرى سأتطرق لذكرها تفصيلا بعد قليل. وبعد أن قطعت شوطا طويلا في قراءة كتب العهد القديم لاحظت تشابها كبيرا جدا بين أحكام الشريعتين اليهودية والإسلامية، ووجدت أمرا من الله لليهود بقتال غير المؤمنين. فقلت لنفسي فلماذا إذا ألوم على الإسلام أمره للمؤمنين بالجهاد وقتال غير المؤمنين واعتباره للمسلمين كخير أمة أخرجت للناس كما اعتبرت التوراة اليهود شعب الله المختار؟ وهاهي أحكام الشريعة اليهودية تكاد تتطابق مع مثيلتها الإسلامية من أمر بالطهارة ومبدأ العين بالعين والسن بالسن وحتى طريقة أداء الصلوات بل وصوم الإثنين والخميس وتحريم لحم الخنزير. فلماذا يتهم الإسلام بالتشدد والعنف؟ بدأت أشعر بالراحة النفسية وأنا أصل لتلك التصورات معتبرة أنني قد أكون قاربت على نهاية رحلة شكي وربما تكون تلك هي مشيئة الله وأحكامه ونظامه الذي علينا طاعته دون جدال أو تفكير عميق. لكنني في نفس الوقت كنت أبحث على الإنترنت عن إجابات لتساؤلاتي في الإسلام فازداد حيرة ورفضا لكل التبريرات وأشعر بداخلي بأنه حتى وإن كان هناك تشابها كبيرا بين الإسلام واليهودية من جهة خوض الحروب والقتال وأحكام الشريعة إلا أنني لم أفهم لماذا أوقف السيد المسيح العمل بتلك الأحكام وأتى بثورة حقيقية واستبدل العهد القديم القائم على تطبيق الناموس أو الشريعة بعهد جديد يقوم فيه خلاص الإنسان على قبوله بهدية الله المجانية بتقديم السيد المسيح نفسه ذبيحة لخلاص البشر، فلا حاجة بعد إذا لتطبيق الناموس أو الشريعة والقيام بفرائض محددة لتجنب عقاب الله ونيل رضاه. فلماذا سيعود الله مرة ثانية في الإسلام ليفرض أحكام الشريعة ويبطل فداء المسيح؟!
وكانت المفاجأة الحقيقية التي اكتشفتها وأنا أقرأ العهد الجديد أن وجدت الإجابة أخيرا عن التساؤل الذي أرقني لسنوات وهو. إذا كان الله يحب البشر حبا جما ويرغب في إنقاذهم من عذاب جهنم. وإذا كان السيد المسيح هو ابنه الوحيد كما يقول الإنجيل، فلماذا يلزم الله ابنه الوحيد بأن يُقتل صلبا ويُعذب ويُهان من أجل أن يخلص البشر؟ لماذا لا يعفو عنهم هو ويغفر لهم برحمته مباشرة دون الحاجة لتقديم ابنه كذبيحة؟ وجاءتني الإجابة واضحة بين سطور وآيات العهد القديم الذي يؤكد منذ بدايات سفر التكوين وطوال الكتاب أن الله قد أسس مبدأ للغفران منذ بداية تعامله مع البشر وهو ضرورة تقديم قربان ليخلص به الإنسان الخاطئ من ذنوبه وهو ماحدث في قصة قايين وهابيل التي ذكرها القرآن أيضًا بنفس التفاصيل حيث قدم كلا منهما قربانه كفارة لله فتقبل الله ذبيحة هابيل ولم يتقبل من قايين وهو ما أثار حسده وغيرته وغضبه فقرر قتل أخاه هابيل. وإذا استكملنا قراءة العهد القديم سنجد أن مبدأ القربان أو الفدية كان هو السائد في العلاقة بين الله والبشر. فكما قال بولس الرسول “وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيبا يَتَطَهَّرُ حَسَبَ النَّامُوسِ بِالدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!” (عب 9: 22). ففي الشريعة اليهودية حدد الله ذبائح بأوصاف خاصة لتكفير ذنوب وخطايا محددة. كما كان إبراهيم على استعداد لتقديم ابنه ذبيحة إرضاء لله، لكن الله كان يختبر طاعته وإيمانه فأخبره بأنه هو نفسه “الله” من سيقدم الذبيحة.
ولستة أشهر كاملة كان شغلنا الشاغل أنا وزوجي هو قراءة العهد القديم والعهد الجديد والقرآن وسماع مناظرات وقراءة تجارب حياتية وتجارب اقتراب من الموت والبحث عن إجابات من خلال المواقع الإسلامية والمسيحية على الإنترنت والدعاء بإلحاح إلى الله ليرشدنا للحق. وفوجئنا بفيض من الدلائل والاكتشافات التي كانت جميعها تقودنا إلى حقيقة واحدة ألا وهي أن السيد المسيح هو وحده الطريق والحق والحياة وأنه ابن الله الوحيد المولود غير المخلوق الذي تجسد في صورة بشرية ليصنع الفداء ويصالح البشر على الله ويهبنا القدرة على النجاة من عذاب جهنم الأبدية التي نستحقها جميعا نتيجة خطايانا لنفوز بصحبته في الملكوت الأبدي بالنعمة الإلهية وليس بأعمالنا البشرية الناقصة التي مهما تعبنا فيها فلن تمكننا أبدا من استحقاق الفوز بمثل ذلك النعيم الأبدي الذي لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان. ذلك الذي أعده الله للذين يحبونه.
وسأحاول في الصفحات القادمة أن أذكر كل ما توصلت إليه ليس فقط على مدار الستة أشهر التي سعيت فيها بكل جهدي للوصول إلى الحق ولكن على مدار سنوات طويلة أرشدني فيها الله – الذي لا يسمح لأحد يسعى لمعرفة طريقه بأن يضل أو يهلك – إلى العشرات من النقاط الواضحة.
وأبدأ من العهد القديم الذي كان كلمة السر لفهم عقيدة الفداء والصلب ولماذا يقرر الله أن يرسل ابنه الوحيد ليفدي العالم من الموت الأبدي أو عذابات جهنم ويقدم له خلاصا مجانيا للفوز بالملكوت السماوي. وسأذكر خواطري التي كتبتها أثناء بحثي في هذه النقاط الأساسية:
في سفر التكوين لاحظت ذكر التاريخ البشري وقصص الأنبياء بشكل مرتب منذ قصة الخلق وخطيئة آدم وحواء وغواية الحية “إبليس” لهما ثم ذكر نسلهم ونسل نسلهم بشكل مفصل وواضح. وقصص الأنبياء مرتبة ترتيبا تاريخيا ومكتملة، على عكس القرآن الذي لا يذكر أي قصة من قصص الأنبياء بشكل كامل سوى قصة يوسف، بل ونرى تكرارا لبعض القصص والمواقف في أكثر من سورة بنفس المحتوى دون مبرر للتكرار. ومن الأمور التي توقفت عندها والتي يتخذها بعض المسلمين ذريعة لمهاجمة العهد القديم هي ذكر خطايا وذنوب كبيرة للكثير من الأنبياء. فإبراهيم كذب على فرعون مصر وأخبره بأن سارة أخته وليست زوجته عندما أعجب بها لأنه خشي أن يقتله الملك ويأخذ زوجته ساره لنفسه. وبعدها بسنوات تكرر الموقف نفسه مع أبيمالك. لكن الله هو الذي كان ينجي سارة في المرتين رغم ضعف إبراهيم وتصرفه الخاطئ. فالكتاب المقدس ينفي مبدأ عصمة الأنبياء ويؤكد بشريتهم الناقصة وهذا في رأيي دليل على عدم تحريفه لأن اليهود كانوا يحترمون الأنبياء كثيرا خاصة إبراهيم الذي يلقبونه بـ أبو الآباء لكنهم في الوقت نفسه لا يجرؤون على تحريف قصته أو إخفاء كذبه. على عكس القرآن الذي يحاول دائما تقديم أفضل صورة للأنبياء وإطلاق لقب “سيدنا” على أي نبي تكريما له حتى بات المسلمون يصورون الأنبياء في صورة شديدة القداسة لا يمكن أن ترتكب مثل هذه الأخطاء التي ذكرت في العهد القديم. فداوود الملك الذي يعتبر من أهم الشخصيات التي لها مكانة خاصة في التراث اليهودي والمسيحي وصاحب “مزامير داوود” رأى امرأة شديدة الجمال فأعجب بها لكنه علم بأنها متزوجة ورغم ذلك زنى معها ثم أمر بإخراج زوجها على رأس الجيش ليُقتل وهو ما حدث بالفعل لكي يأخذ امرأته. لكن الله غضب عليه غضبا شديدا نتيجة ما فعل رغم أنه اختاره للمُلك دونا عن إخوته السبعة وأيده ونصره. لكنه تاب وندم وتذلل أمام الله قائلا: “فَقَالَ دَاوُدُ لِلرَّبِّ: «لَقَدْ أَخْطَأْتُ جِدّا فِي مَا فَعَلْتُ، وَالآنَ يَا رَبُّ أَزِلْ إِثْمَ عَبْدِكَ لأَنِّي انْحَمَقْتُ جِدّا»” (2 صم 24: 10). فقبل الله توبته لكنه عاقبه عقوبة أرضية. كما أن سليمان ورغم ما أعطاه الله له من حكمة ومُلك، انقاد لشهوة النساء وتزوج بأكثر من سبعمائة امرأة من الأمم الوثنيين فأضلوه حتى طلبوا منه بناء معبد لآلهتهم وهو ما أغضب الله منه غضبا شديدا رغم توبته في أيامه الأخيرة.
كما وجدت تشابها كبيرا بين أحكام الشريعتين اليهودية والإسلامية كأحكام الطهارة والكفارة والصلاة والصيام وحجاب المرأة ونجاسة المرأة وقت الحيض وتحريم تناول لحم الخنزير وصوم يومي الإثنين والخميس وغيرها.
جميع الأنبياء الذين أتوا بعد إبراهيم جاءوا من نسل إسحق. حيث قال الله لإبراهيم: “لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ” (تك 21: 12). وقصة الذبيح في التوراة تحدثت بشكل واضح عن إسحق وليس عن إسماعيل كما يعتقد المسلمون. ففي ذلك الوقت كان إسماعيل قد رحل بصحبة والدته هاجر وكان إسحق هو الذي تربى في حضن أبيه إبراهيم. وماذُكر عن إسماعيل في التوراة هو ما خاطب به الله إبراهيم قائلا: “وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرا جِدّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّة كَبِيرَة. وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الآتِيَةِ” (تكوين17: 20، 21).
إذا فقد ميز الله إسحق عن إسماعيل رغم كون إسماعيل الابن البكر وأقام عهده مع نسل إسحق وليس مع نسل إسماعيل. ولم يذكر القرآن شيئا عن تفاصيل نبوة إسماعيل أو تمتعه بأية علاقة خاصة مع الله بل على العكس وصفته التوراة بأنه: “وَإِنَّهُ يَكُونُ إِنْسَانا وَحْشِيّا، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ” (تك 16: 12).
يذكر القرآن أن إبراهيم بنى مع إبنه إسماعيل الكعبة كأول بيت للعبادة رغم أن التوراة تؤكد بوضوح أن أول من فكر في بناء هيكل ثابت للرب بدلا من خيمة الشهادة المتنقلة هو داود لكن الله وعد داود بأن يكون البناء في عهد ابنه ووريثه سليمان الذي تذكُر كتب العهد القديم أنه بدأ العمل في بنائه في السنة الرابعة من حكمه واستغرق العمل فيه سبع سنوات وستة أشهر. واشتغل آلاف اليهود والفينيقيين في قطع الأخشاب وقطع الصخور ونقلها من لبنان إلى أورشليم فوق جبل المُريا. وكان خشب السطح والأبواب من الأرز وخشب الأرض من السرو والكل مغطى بالذهب. وتصف كتب العهد القديم تفصيليا هذا الهيكل الذي كان مركزا للعبادة اليهودية وحتى قدوم السيد المسيح الذي كان يجلس في الهيكل منذ صغره يناقش رجال الدين اليهود ويعظ بنفسه هناك.
ويذكر العهد القديم الهيكل في مواضع عديدة كأقدس مكان للرب في الأرض ثم يأتي المسلمون ليصفونه بالهيكل المزعوم! ويصرون على اعتباره مسجدا لهم وثالث أقدس مكان طبقا لقصة الإسراء والمعراج. فلم يذكر العهد القديم أي شيء عن مكة أو بناء يدعى الكعبة أو أن إبراهيم ذهب إلى هناك يوما ما. فمنذ قدومه من العراق إلى فلسطين ثم سفره إلى مصر وعودته إلى أرض فلسطين مرة أخرى لم يغادر إلى أي مكان. فلو كان إبراهيم قد ذهب إلى مكة بالفعل أفلم يكن من المنطقي أن تذكر تلك القصة في التوراة والإنجيل وكان اليهود والمسيحيون سيذهبون إليها للحج؟ ولماذا نرى أن تقديس الكعبة قبل الإسلام كان مرتبطا بالوثنيين الذين كانوا يضعون في ساحتها الأصنام حيث لم تكن على الإطلاق مكانا مقدسا لأي من اليهود أو المسيحيين بل على العكس ارتبطت بالوثنية . والدليل أنه في بداية فرض الصلاة كانت القبلة باتجاه بيت المقدس حيث أراد محمد أن يستميل إليه اليهود بتأكيد قداسة أورشليم ثم عندما وجد رفضا قاطعا منهم في المدينة للإيمان به عاد وحوّل القبلة باتجاه الكعبة وهو ما أثار الكثير من الجدل والاستهجان وقتها نتيجة لهذا التغيير فجاء رد القرآن: “سَیَقُولُ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِی كَانُوا۟ عَلَیۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ” [البقرة ١٤٢] أيضًا، “قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَةࣰ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَیۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ لَیَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا یَعۡمَلُونَ” [البقرة ١٤٤].
إذا فالمفترض أن يكون الله قد قرر نقل القداسة من أورشليم إلى مكة فقط إرضاء لهوى محمد! أما أورشليم فقد وصفها السيد المسيح بـ “مدينة الملك العظيم ” والمقصود بالملك “الله”. كما وصف الفردوس أو المكان الذي سيسكن فيه المؤمنين إلى الأبد مع الله بـ “أورشليم السماوية” فلماذا لم نر أحدا من الأنبياء قبل محمد يذكر مكة أو يشير لقداستها؟ وسوف أتحدث عن طقوس الحج ومكانة الكعبة عند العرب في الجزء الخاص بالقرآن والإسلام.
من يقرأ كتب العهد القديم سيلاحظ فرض الشريعة وأمر الله لبني إسرائيل بقتال الأمم وتعدد الزوجات وإباحة الطلاق ورجم الزاني والزانية. وهو الأمر الذي توقفت عنده وتساءلت في بداية قراءتي: فلماذا يلام الإسلام أو القرآن عندما يأمر بنفس تلك الأمور؟ ولبعض الوقت وأنا أقرأ كنت أشعر بالراحة النفسية عندما اكتشف التشابه ما بين اليهودية والإسلام لكن ما كان يجعلني أعود وأشعر بعدم الفهم هو ما جاء به السيد المسيح من تعاليم جديدة واستبدال للعهد القديم بعهد جديد يقوم على تقديم نفسه ذبيحة من أجل الخلاص وليس تطبيق أحكام الشريعة. وإلغاء فكرة القصاص والحروب واستخدام السيف مؤكدا أن “فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: رُدَّ سَيْفَكَ إلى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!” (مت 26: 52). فإذا كانت الأديان الثلاثة من عند الله بالفعل فلماذا سيفرض الله بعض الأحكام في اليهودية ثم يقرر إيقاف العمل بها مع قدوم السيد المسيح ثم يعود ثانية لفرضها في الإسلام؟!
وعندما بحثت عن السبب لأمر الله لبني إسرائيل بقتال الأمم وأخذ أرضهم وجدت ردودا منطقية بأن الله أرسل لهم على مدار قرون أنبياء يدعونهم لعبادته وترك عبادة الأصنام لكنهم أصروا على رفض الإيمان به، فأرسل الله بني إسرائيل لقتالهم عقابا لهم. كما كان وعد الله لإبراهيم قبل قرون “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقا قَائِلا: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إلى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ” (تك 15: 18).
وكان لابد لله أن ينفذ وعده وإن بعد مئات السنين. وهو ما حدث بالفعل، وهو الأمر الذي توقفت عنده أيضًا وجعلني أعيد النظر في الكثير من مسلماتي. فكمسلمة تربيت على فكرة اغتصاب اليهود لأرض فلسطين العربية الإسلامية وكنت أراني صاحبة حق في هذه الأرض باعتباري مسلمة، فهي أرض للمسلمين لمجرد أن نبي الإسلام أسري به إليها، وقام المسلمون في عهد عمر ابن الخطاب باحتلالها فأصبحت بذلك ملكا للمسلمين إلى يوم الدين. وكما يرى المسلمون أنفسهم أنهم أصحاب الحق في الأرض طبقا إلى نصوصهم المقدسة، فمن نفس المنطلق يرى اليهود أنهم أصحاب الحق في الأرض إلى يوم الدين حيث وعد الله إبراهيم قائلا: “لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات”. وقال له أيضا: “وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْدا أَبَدِيّا، لأَكُونَ إِلها لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ” (تك 17: 7). ولنقرأ جيدا هذه الآيات من سفر حزقيال (صح36: 22- 28) “لِذلِكَ فَقُلْ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: لَيْسَ لأَجْلِكُمْ أَنَا صَانِعٌ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، بَلْ لأَجْلِ اسْمِي الْقُدُّوسِ الَّذِي نَجَّسْتُمُوهُ فِي الأُمَمِ حَيْثُ جِئْتُمْ. فَأُقَدِّسُ اسْمِي الْعَظِيمَ الْمُنَجَّسَ فِي الأُمَمِ، الَّذِي نَجَّسْتُمُوهُ فِي وَسْطِهِمْ، فَتَعْلَمُ الأُمَمُ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، حِينَ أَتَقَدَّسُ فِيكُمْ قُدَّامَ أَعْيُنِهِمْ.وَآخُذُكُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ وَأَجْمَعُكُمْ مِنْ جَمِيعِ الأَرَاضِي وَآتِي بِكُمْ إلى أَرْضِكُمْ.وَأَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاء طَاهِرا فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ.وَأُعْطِيكُمْ قَلْبا جَدِيدا، وَأَجْعَلُ رُوحا جَدِيدَة فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ.وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائِضِي، وَتَحْفَظُونَ أَحْكَامِي وَتَعْمَلُونَ بِهَا.وَتَسْكُنُونَ الأَرْضَ الَّتِي أَعْطَيْتُ آبَاءَكُمْ إِيَّاهَا، وَتَكُونُونَ لِي شَعْبا وَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ إِلها” ألم تتحقق هذه النبؤة بعد آلاف السنين في أيامنا هذه؟ وألم يقل القرآن: “فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ لِیَسُـوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرا” [الإسراء ٧]، وبغض النظر عن رفض أو دعم دولة إسرائيل فإن الكل يستند لنصوص مقدسة تعطيه الحق في امتلاك هذه الأرض. وقد نصر الله بني إسرائيل على الأمم وأعطاهم الملك والسيادة على هذه الأرض لقرون عدة حتى قرر الله عقابا لهم أن يخرجهم منها ويشتتهم في الأرض لكنه وعدهم بإعادتهم من الشتات مرة أخرى عندما يعودون لحفظ وصاياه. وأظن أن أحكام الشريعة المتشددة والحرفية كانت في بعض الأوقات اختبارا من الله لبني إسرائيل للطاعة. فقد كانوا كثيري المجادلة والوقوع في الخطأ والبعد عن الله وإغضابه في الكثير من الأحيان بشهادة كتب العهد القديم نفسها التي كتبها أنبياء بني إسرائيل بأنفسهم وهذا دليل آخر على عدم التحريف. فمن يقرأ تلك الكتب يجد نقدا شديدا من جانب الله لبني إسرائيل فلو كانوا قد قاموا بالتحريف فكان من باب أولى أن يحذفوا كل الآيات التي تهاجمهم وتذكر الخطايا الرهيبة التي ارتكبوها في حق الله. وقد انتقدهم الله في أكثر من موضع قائلا: “وَكَانَ الرَّبُّ قَدْ قَالَ لِمُوسَى: قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْتُمْ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ. إِنْ صَعِدْتُ لَحْظَة وَاحِدَة فِي وَسَطِكُمْ أَفْنَيْتُكُمْ. وَلكِنِ الآنَ اخْلَعْ زِينَتَكَ عَنْكَ فَأَعْلَمَ مَاذَا أَصْنَعُ بِكَ (خر 33: 5). وفي موضع آخر: “لاَ تَلْتَفِتْ إلى غَلاَظَةِ هذَا الشَّعْبِ وَإِثْمِهِ وَخَطِيَّتِهِ” (تث 9: 27). وفي آية أخرى “وَقَالَ لِي: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَا مُرْسِلُكَ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إلى أُمَّةٍ مُتَمَرِّدَةٍ قَدْ تَمَرَّدَتْ عَلَيَّ. هُمْ وَآبَاؤُهُمْ عَصَوْا عَلَيَّ إلى ذَاتِ هذَا الْيَوْمِ” (حز 2: 3). وأيضًا، “وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلا: «حَتَّى مَتَى أَغْفِرُ لِهذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَذَمِّرَةِ عَلَيَّ؟ قَدْ سَمِعْتُ تَذَمُّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي يَتَذَمَّرُونَهُ عَلَيَّ” (العدد14: 26، 27). فلو كان اليهود قد قرروا تحريف كتبهم أفلم يكن من باب أولى أن يقوموا بحذف كل ما يشينهم أو يدينهم أو ينتقص منهم؟!
كما وجدت تناقضا بين بعض القصص أو الوقائع التي ذكرت في التوراة والقرآن. فقصة إبراهيم التي ذكرت في التوراة تختلف في الكثير من التفاصيل عن القصة التي ذكرت في القرآن. وكذلك قصة لوط وقصة نوح وقصة سليمان، وقصة السامري حيث أن نفس القصة ذكرت في التوراة لكن لم يكن هناك شخص يدعى بالسامري معهم لأنه لم تكن هناك مدينة بعد تسمى بالسامرة ، بل كان هارون هو من صنع العجل الذهب ليرضي بني إسرائيل وهو ما تسبب في غضب الرب عليه وقرر أن يهلكه لكن موسى تشفع من أجله. كما أن قصة الخضر التي ذكرت في القرآن لا نجد لها أثرا في التوراة. على الرغم من أن التوراة ذكرت تفصيليا قصص الأنبياء. وما توقفت عنده أيضًا أن كل الأنبياء في العهد القديم حتى الذين لم يذكرهم القرآن كان الله يتواصل معهم بصورة مباشرة وليس عن طريق الملائكة إلا في أحيان قليلة وهو ما لم يحدث مع محمد الذي لا يُذكر أن الله خاطبه مباشرة ولا مرة واحدة بل كان يظن أن الملاك جبريل هو الذي يوحي إليه برسائل الله. فإذا كان محمدا “سيد المرسلين” كما يقولون فلماذا لم يخاطبه الله مباشرة كما خاطب نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وإيليا وإشعياء وغيرهم؟!
كما لاحظت أثناء قراءتي للعهد القديم عدم ذكر أي شيء يقول أن العزير أو أليعازر هو ابن الله كما يقول القرآن “وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ عُزَیۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَى ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ …” [التوبة ٣٠] فأليعازر كان ابنا لهارون وأصبح كاهنا ولم يلقبه اليهود أبدا بإبن الله. ولا أعلم من أين استقى محمد هذه المعلومة الخاطئة.
أما أهم وأخطر ما ورد في العهد القديم فهو النبؤات التي تبشر بالسيد المسيح كمخلص للبشر من خطاياهم خاصة نبوة إشعياء النبي في الإصحاح 53 من عدد 3 إلى 12 “مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابا مَضْرُوبا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولا. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْما، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلا تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَة، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ”.
فهل يعجز أي قارئ لتلك الآيات عن فهم المقصود بتلك النبوءة؟ فإذا لم يكن السيد المسيح فمن ياترى؟ هل ذكر التاريخ شخصا آخر غير الرب يسوع المسيح حدثت معه هذه الأمور بكل تلك التفاصيل وقيل عنه أنه جعل نفسه ذبيحة إثم، وحمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين؟ ولا أدري كيف يقرأ اليهود هذه الآيات حتى اليوم ولا يؤمنون بأن يسوع هو المسيح الذي تنطبق عليه حرفيا هذه الآيات وغيرها الكثير؟ فعندما قرأت تلك الآيات وكنت لا زلت مسلمة أصابتني دهشة حقيقية لأنني لم أكن أتخيل أن هناك نبؤات لما سيحدث للمسيح قبلها بمئات السنوات على صفحات العهد القديم.
إذا فقصة الفداء والصلب لم تكن اختراعا مسيحيا كما أوهمونا. بل هناك عشرات النبؤات التي لا تنطبق سوى على السيد المسيح لتكون دليلا لليهود ولغير المسيحيين الذين سيشككون في الروايات المسيحية. أتذكر أن أول صدمة استوقفتني كانت في مزامير داود، الذي يقول فيه: “قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئا لِقَدَمَيْكَ” (مز 110: 1). وتوقفت عند وصف داود لشخصين بلفظ “رب” وعندما بحثت عن تفسير هذا المزمور وجدت استشهاد السيد المسيح به في العهد الجديد في إنجيل متى عندما سأل اليهود وهو يعلم في الهيكل “قَالَ لَهُمْ: فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّا؟ قَائِلا: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئا لِقَدَمَيْكَ. فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّا، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟” ( متى 22: 43 – 45). هكذا أراد الرب يسوع أن يلفت أنظار اليهود إلى مكانة المسيح الذي كانوا ينتظرونه معتبرين فقط أنه سيكون من نسل داود. لكن السيد المسيح أراد أن يشير لوصف داود له بالرب. إذن لم يستنكر السيد المسيح وصف أحد له بالربوبية، ولم يبتدع المسيحيون لقب “يسوع ربنا” بل وصفه داود نفسه بالرب ولم يستنكر السيد المسيح ذلك الوصف بل على العكس أراد لفت انتباه اليهود لمكانته.
وفي المزمور الثاني من عدد 7 إلى 12 يتنبأ داود عن المسيح بالروح قائلا: “إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثا لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكا لَكَ. تُحَطِّمُهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. مِثْلَ إِنَاءِ خَزَّافٍ تُكَسِّرُهُمْ.فَالآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الأَرْضِ.اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ، وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الابْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيل يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ”.
والمفاجأة الأخرى كانت أن أرى كلمة “ابن الله” في التوراة في أكثر من موضع. فقد كان أكثر ما يثير غضبي وغضب المسلمين تجرأ المسيحيين على نسب إبن لله. فالقرآن هاجم بشدة من يفعلون ذلك قائلا: “وَقَالُوا۟ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَلَدࣰا لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَیۡـٔا إِدࣰّا تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ یَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدّا أَن دَعَوۡا۟ لِلرَّحۡمَـٰنِ وَلَدࣰا وَمَا یَنۢبَغِی لِلرَّحۡمَـٰنِ أَن یَتَّخِذَ وَلَدا إِن كُلُّ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّاۤ ءَاتِی ٱلرَّحۡمَـٰنِ عَبۡدࣰا” [مريم ٨٨-٩٣] وقد كانت فكرة بنوة المسيح لله هي العائق الأكبر الذي جعلني لسنوات أنفر من فكرة اعتناق المسيحية ولا أتخيل نفسي قد أقبل شركا واضحا مثل ذلك، فالمسيحيون يفترون على الله وينسبون له ولدا. سبحانه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا بحسب وصف القرآن.
ولكن مهلا.. من قال أن الله اتخذ زوجة أو صاحبة أنجب منها. حاشاه. وهل علمنا كمسلمين معنى أن يكون يسوع هو ابن الله؟ وهل ذكر المسيحيون في أي موضع أن الله اتخذ زوجة وأنجب منها؟ أؤكد تماما أن المسلمين – وقد كنت واحدة منهم لمدة ثلاثة وثلاثين عاما – لا يفهمون أبدا حقيقة المعتقد المسيحي. وهم على حق في عدم قدرتهم على تقبل ما لا يفهمونه فقد وصل لهم بشكل مشوه لأن الإنسان عدو ما يجهل. وسنتطرق بالتفصيل فيما بعد لمفهوم بنوة الرب يسوع لله ومفهوم ألوهيته ولكن الآن أذكر فقط ما استوقفني وفاجأني من ذكر نفس المفهوم في التوراة أيضًا، فلم أكن أتخيل أن أجد ما يؤكد موقف المسيحيين في التوراة وليس فقط في الإنجيل. وهو ما جعلني أشعر بأن الغشاوة قد بدأت بالفعل تتكشف من على عيني خاصة وأن هناك العديد من الآيات الأخرى كما ذُكر في سفر إشعياء بشكل واضح وصريح على لسان الله نفسه: “لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبا، مُشِيرا، إِلها قَدِيرا، أَبا أَبَدِيّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ” (إش 9: 6). إذا فالله نفسه يعد بأنه سيولد له ولد على الأرض ويدعى “إلها قديرا”. وقتها تساءلت ولأول مرة. ماذا لو كان لله ولدا بالفعل؟ ولم لا؟ ماذا لو أراد هو أن يكون له ولد؟ هل سنحكم نحن بقدرتنا البشرية على الله باستحالة أن يكون له ولد؟ وبما أن الله ليس كمثله شيء وهو لا يشبه البشر فلماذا لا يكون ابنه في صورة لا ندركها نحن بقدراتنا العقلية المحدودة؟ فلا اليهودية ولا المسيحية ادعت أن الله عز وجل قد تزوج يوما أو أنجب. وعندما نقرأ العهد الجديد سيتضح أكثر أن ابن الله هو “كلمة الله” وليس بمفهوم الإبن البشري. فتلك العقيدة منعتني لسنوات من مجرد التفكير في اعتناق المسيحية والتي – وحتى بعد إيماني بالسيد المسيح – كانت الإشكالية الأكبر أمامي وأمام الكثيرين لفهمها والإيمان بها بكامل اقتناع. لكنني وبالصلاة الحارة إلى الله ليقودني لفهم حقيقتها وجدت الفيض الإلهي يتدفق لشرح هذه العقيدة الصعبة والتي لا يمكن لأحد أن ينكر مدى صعوبتها حتى على بعض رجال الدين المسيحيين الذين قد يعجزون في الكثير من الأحيان عن شرحها للمؤمنين ولغير المؤمنين، وهي التي تشكل العائق الأكبر أمام الكثيرين لاعتناق المسيحية. ولن أدعي أنني وصلت لفهم كامل لعقيدة الثالوث لكنني سأذكر تفصيليا ما قادني إليه الرب القريب مجيب الدعوات الذي يسمع لدعواتنا وصلواتنا ويستجيب بشكل عجيب وبطرق تذهلني وتؤكد لي يوما تلو الآخر أنه وبحق الآب السماوي القريب من أبناءه الذين يطلبون منه، والذي لا يخذل أبدا من يريد معرفته عن قرب والاقتراب منه أكثر وهو ما فعله معي أنا الإنسانة الضعيفة الخاطئة التي كانت يوما ما تمتلئ بالكراهية والتعصب لكن الله غمرني بمحبته وبنعمته التي حولت كل ظلمة بداخلي إلى نور.